الهجوم على غزة.. وعودة الأمور إلى مواقعها الأولى

TT

بالحرب الإسرائيلية العشرين أو الخامسة والعشرين منذ اغتصاب فلسطين، تعود الأمور إلى المربَّع الأول: أنّ القضية الفلسطينية لم تجدْ حلاًّ يُرضي الشعبَ الفلسطيني، وأنّ إسرائيل لا تستطيع البقاءَ بدون حربٍ كلَّ عدة سنوات. اللواء محمود شيت خطّاب، كان يقول: هناك حربٌ كلَّ عشر سنوات، ما دام الشعبُ الفلسطيني ما انكسرتْ إرادتُهُ، وما دامت الأمة غير مرتاحةٍ إلى التطورات الدائرة على أرضها ومن حولها. واللواء خطّاب كان متفائلاً أكثر من اللازم، فإسرائيل كانت مُحتاجة إلى حربٍ كلَّ عشر سنوات عندما كانت الأنظمة العربية هي الطرف الآخر في الصراع الدائر على فلسطين. لكنْ بعد أن تسلّمت راية الكفاح الحركات الثورية القومية واليسارية فالإسلامية؛ فالذي تغيَّر أنَّ الحرب تدور دائماً، وأنّ الصهاينة مضطرون للردّ دائماً أو العكس بالعكس. وفي ذلك فَشَلٌ للصهاينة بالدرجة الأولى، والذين اعتقدوا أنّ القوة العسكرية التي أحدثت الاغتصاب، ستظلُّ قادرةً على كسْب المعارك للكيان بحيث تتطور المسائل، وينسى العرب والفلسطينيون المسألة الأصلية (اغتصاب فلسطين)، وينهمكون في المسائل الفرعية مثل حدود العام 1948، وحدود العام 1967، وحدود العام 1979، وحدود مدريد وأوسلو، والعام 1994. ثم إنّ في الهجوم الإسرائيلي على غزة بعد الخروج منها عام 2005، وفي الهجوم الإسرائيلي على لبنان عام 2006 بعد الخروج منه عام 2000 ـ فشلاً ظاهراً للعرب. فقد تطورت المسائلُ لديهم أيضاً. قبل العام 1967 كانت الجهود تنصَبُّ على مكافحة إسرائيل، واستنقاذ فلسطين أو تحرير ما يمكن منها. وبعد العام 1967، صارت مشكلة العرب تحرير الأراضي الجديدة التي احتلتها إسرائيل من الدول العربية ـ وأحالوا قضية فلسطين على التنظيمات الثورية المنخرطة في منظمة التحرير الفلسطينية. وفي حين خاض الفلسطينيون معركتين؛ معركة تحرير فلسطين، ضد إسرائيل، ومعركة «القرار الوطني الفلسطيني المستقلّ» ضد الأنظمة الثورية العربية في سورية والعراق وليبيا التي ظلت تستند في جزءٍ من شرعيتها على القضية الفلسطينية، انتقل العربُ بعامةٍ إلى الصف الثاني لدعم جهود منظمة التحرير وليس أكثر. وكانت النتيجة أنّ التنظيمات الثورية الفلسطينية القومية واليسارية المنخرطة في منظمة التحرير أو المتحالفة مع أحد الأنظمة العربية، ما استطاعت التوصل ـ مع النظام العربي ـ لأكثر من مدريد وأوسلو؛ فحلت محلَّها بالتدريج التنظيمات الثورية الإسلامية مثل الجهاد الإسلامي، وحماس، وحزب الله. وفي الحقيقة فإنّ مفاوضات مدريد كانت آخِر محاولات النظام العربي والدولي الجدية للتعامُل مع القضية الفلسطينية بمجملها. وعندما فشِلت لغياب الشريك بمقتل إسحاق رابين عام 1995، صارت التطورات منفصلةً تماماً بفعل القوة الإسرائيلية والانحياز الأميركي بعد عودة أوحدية الهيمنة بانتهاء الحرب الباردة، وانصراف روسيا إلى لَعْق جراحها. وعاد العربُ إلى التعبير عن التزاماتهم تُجاه فلسطين، وتُجاه أنفُسِهم ونظامِهِمْ بالمبادرة السعودية للسلام الشامل في مؤتمر القمة العربية ببيروت عام 2002، والذي صارت المبادرة فيه عربية. بيد أنّ الأميركيين لم يأبهوا لذلك في خضمِّ حربهم المشتعلة على الإرهاب الإسلامي، ومن ضمنه الكفاح الوطني الفلسطيني. وفي الوقت الذي شعر فيه العربُ بهَول الحصار الأميركي بالقواعد العسكرية، وبحرب الأفكار، وبغزو العراق، حاول الإسرائيليون الانتهاء من قضية فلسطين بالحرب الشاملة على فلسطينيي أوسلو. أمّا مع الحركات الإسلامية فقد اعتقدوا أنهم يستطيعون استيعاب مشكلتها بالتخلّي لها عن جنوب لبنان ثم إقامة منطقة عازلة ـ 2005، 2006، ـ وعن قطاع غزَّة عام 2005.

وهكذا، فكما لم يستطع الصهاينة ابتلاع فلسطين بقتل أوسلو، وبقتل حماس، ما استطاع النظام العربي اجتراح حلٍّ للمشكلة بالتخلّي أو التفويض (للتنظيمات الثورية بنوعيها) أو الهجوم باتجاه التسوية.

ومما يدلُّ على هشاشة الوضْع، وعودته إلى المُربَّع الأول (مربَّع الصراع على فلسطين) توهُّجُ الشعور العربي والإسلامي من جديد بمناسبة الهجوم الإسرائيلي على غزّة، واندلاع المظاهرات والاعتصامات والصلاة على شهداء غزة، في أنحاء العالمين العربي والإسلامي. ومن باكستان وأفغانستان إلى إندونيسيا وتركيا، والمنطقة الكردية بالعراق. ويزيد الأمر فجيعة لدى الجمهور العربي إحساسُهُ بالخديعة. فقبل شهر كان الزعماء الإسرائيليون يتحدَّثون عن التسوية الشاملة، وعن انتهاء الحروب، وعن مُلاقاة الفلسطينيين والعرب على إنشاء الدولة الفلسطينية، والخروج من الجولان، وإقامة السلام!

ولذا، فإنّ المسألة الأخرى بعد عودة فلسطين إلى أعناق العرب والمسلمين؛ هي مصائرُ هذا النظام العربي، الذي تحمَّل مسؤوليات الضياع والانقسام الفلسطيني، ومسؤوليات وأعباء الغزو الأميركي للعراق. وأخيراً الانشقاقات بين الأنظمة والجمهور ـ وبخاصةٍ الشرائح الإسلامية الجديدة ـ، وعلى قضايا ومشكلات تبدأ بفلسطين ولا تنتهي بها، إذ المعروف أنّ النظامَ العربيَّ تعطَّل جزئياً عندما أَخرج مصرَ منه بعد العام 1979 (بسبب معاهدة السلام مع إسرائيل). ثم تعطَّل أو تعطّلت اجتماعاته بعد الغزو الأميركي للعراق عام 1990، ثم عام 2003. وها هو الآن، والجمهور العربي والإسلامي في الشارع ـ يعجزُ عن الاجتماع في قمةٍ عربيةٍ استثنائية، كما يعجز الرئيس الحالي للقمة (الرئيس السوري) عن القيام بأية مبادرة، وبعجز النظام العربي أخيراً عن استخدام نفوذه في المجال الدولي من أجل التوصل إلى قرارٍ بوقف النار على شعب غزة ومَدَنييها.

وإذا كانت لدى النظام العربي مشكلاته الداخلية، ومشكلاته مع نظام الهيمنة الدولي؛ فإنّ له مشكلات قوية أيضاً مع المحيط الإسلامي. فالضَعْفُ البادي فيه جرى استغلالُهُ من جانب إيران، وجرت الإفادةُ منه من جانب تركيا. فإيران حملت راية فلسطين عبر حماس، وعبر حزب الله، وعبر تنظيم الجهاد الإسلامي. ثم اتّسعت تحالُفاتُها لتشمل كل التنظيمات الإسلامية في مشرق الوطن العربي ومغربه؛ فضلاً عن الامتدادات التي حقّقتْها بالتحالُف منذ عقود مع النظام السوري، وبإنشاء حزب الله في لبنان، وبالإفادة من الغزو الأميركي للعراق من أجل التمدّد فيه. وبذلك، فقد تسلمت إيران في العقد الماضي راية المواجهة مع إسرائيل التي استظلَّ بها الإسلاميون. والطريف أنّ إيران ظهّرت هذا التنفذ كُلَّه أيّامَ هُدْنتها مع الولايات المتحدة بعد العام 2001، أي عندما كان النظام العربي في أقسى لحظات ضعفه وإحراجه، بسبب إغارة الأصوليين العرب على الولايات المتحدة. والطريفُ أيضاً أنّ تركيا، الداخلة في الحلف الأطلسي، والتي تملكُ تعاوُناً عسكرياً مع إسرائيل، هي التي تتقدمُ الآن ـ بعد احتضان النظام السوري الذي يسعى لتسويةٍ منفصلةٍ مع إسرائيل ـ لترعى التنظيمات الإسلامية السُنية الثورية وغير الثورية، بحجّة وراثتها للعثمانيين، وأنها تملكُ أن تتوسط بين الإسلاميين وأعدائهم؛ بحُكْم علاقاتها بالطرفين المتصارعَين! وبذلك فالطريف والمأسوي أخيراً أن المشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد، والذي يقولُ الإسلاميون إنهم يقاتلونه، ما أمكن تحقيقهُ إلاّ بفضل جهود إيران وتركيا، بحيث برزت هاتان الدولتان الكبيرتان ـ على حساب الهوية العربية للمنطقة ـ باعتبارهما شريكتين في المنطقة إلى جانب السعودية ومصر.. وإسرائيل!

وفي عودةٍ إلى الوضع الكارثي بغزة، فإنّ اللحظة الحالية مصيرية بالنسبة للنظام العربي، إذ لا بُدَّ من خوض اختبارٍ جديدٍ للجدوى والفعالية من خلال أمرين؛ الضغط من أجل قرارٍ لوقف النار بمجلس الأمن، وإسهام مصر ودورها في استيعاب المأساة المشتعلة على حدودها، والتي وصلت إلى داخِلِها. وقد تقدم العربُ يوم الثلاثاء بمشروع قرارٍ إلى مجلس الأمن، قيل إنّ حظوظَ مروره غير متوافرة. وبتنسيقٍ أو بدون تنسيق تقدَّمَ المصريون بدفعٍ من الفرنسيين بمبادرةٍ قيل إنّ إسرائيل والسلطة الفلسطينية وافقتا عليها. وبهذا أو بتلك أو بمشروعٍ معدَّل لا بُدَّ من إرْغام إسرائيل على وقف النار و«الرصاص المنهمر» على غزّة. وإذا لم ينجح العربُ في ذلك خلال ثلاثة أو أربعة أيام، فلا بد أن ينجحوا في الاجتماع بالجامعة العربية، للتفكير في «إدارة الظَهر» ـ كما قال الأمير سعود الفيصل ـ للمسارات السابقة، واجتراح مسارٍ جديد، يُريدُهُ جمهورُهُمْ؛ بغضّ النظر عن طبائع علاقاتهم بإسلامييهم، ثوريين وغير ثوريين.

لقد حضرتْ لحظة الحقيقة، التي كان ينبغي أن تحضُر في عدة مناسباتٍ سابقة، أولها وأهمُّها الغَزْوُ الأميركي للعراق. بيد أنّ ما لا يُدرَكُ كُله، لا يُتْرَكُ جُلُّه. وأُمتُنا ما عادت تتحمل ساكنة القتل الإسرائيلي، ولا الوصاية الإيرانية والتركية. ولله الأمر من قبل ومن بعد.