بولتون.. والكتابة على وقع الحرب الدموية في غزة

TT

نشر جون بولتون يوم الثلاثاء 6/1/2009 في جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية مقالاً بعنوان «خيار الدول الثلاث»، حيث يقترح حلاً سياسياً للقضية الفلسطينية يتمثل بإلحاق قطاع غزة بمصر، والضفة الغربية بالأردن، معتقداً بذلك أن السلام سيعم المنطقة. مقالة بولتون كتبت على وقع الحرب الدموية البشعة التي تدور رحاها في غزة، حيث ترتكب حكومة إسرائيل جرائم إبادة إنسانية على مدار الساعة في شوارع قطاع غزة، والحل عنده لإيقاف هذه الحرب ما اقترحه من مشروع سياسي تصفوي للقضية الفلسطينية والى أبد الآبدين، متوجاً باقتراحه هذا انتصار الجيش الإسرائيلي مسبقاً على المقاومة الفلسطينية واعتقاده أن ثمرة هذه الحرب سياسياً هي هذا المشروع الخطير..

كنت أتوقع من بولتون أن يتطرق في مقالته، ولو بالقليل، الى المذابح والمجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة بحق السكان المدنيين، وأن يكشف الى أي مستوى وصل الانحطاط العسكري والأمني والخلقي في دولة إسرائيل بتدمير قطاع غزة الصغير والمحاصر والمكتظ سكانياً وإنزال الموت والصواريخ والقنابل فوق رؤوس البشر وارتكاب جرائم حرب على مسمع ومرأى كل العالم.. كنت أتوقع أن يطالب بمحاسبة هذه الدولة البربرية التي ترتكب ارهاباً رسمياً وممنهجاً ضد أبناء شعبنا الفلسطيني وضد حقوقه السياسية والإنسانية والوطنية. اقتراح بولتون هو أقسى من الحرب وأشد، وهو صدى وتفعيل للاستراتيجيات الصهيونية التي وضعت في خططها فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية وإلحاقهما بمصر والأردن لإنهاء وشطب القضية الفلسطينية. هذا المخطط الصهيوني كشف عنه عام 1989 تحت عنوان «خيارات إسرائيل للسلام» أعد من قبل مجموعة من الباحثين الإسرائيليين الاستراتيجيين في جامعة تل أبيب، وكشف شارون في نواياه عن هذا المخطط عندما قرر انسحاب الجيش الإسرائيلي من طرف واحد من قطاع غزة. ويأتي التخطيط الإسرائيلي بفك الارتباط بغزة كخطوة في سياق متكامل بدأ منذ الاحتلال عام 1967، حيث حافظت إسرائيل على الفصل بين الضفة وغزة بمختلف الوسائل السياسية والأمنية، وعبر إبقاء القوانين الأردنية سارية في الضفة، والقوانين المصرية سارية في غزة.

يعرف الفلسطينيون أن للعدوان الإسرائيلي أهدافاً بعيدة تتمثل في قطع الطريق على قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة في الضفة والقطاع بعد أن أجمع كل العالم وأيد إقامة هذا الدولة. كما أن العدوان الوحشي يهدف الى إجبار الفلسطينيين على قبول الحل الإسرائيلي بتصفية القضية الفلسطينية وقبولهم تطبيق مشروع الدول الثلاث.

الشعب الفلسطيني يعرف تماماً أن الحرب على غزة ليست حرباً على حماس وحدها، وإنما هي حرب على الشعب الفلسطيني بأسره، وعلى هويته وكينونته ووحدته الوطنية والجغرافية. إنني أطمئن بولتون أن الشعب الفلسطيني تصدى لمثل هذه المخططات وأسقطها بصموده وانتفاضته، وأن إسرائيل أجبرت في اتفاق أوسلو عن وضع هذا المشروع على الرف أمام إصرار الرئيس عرفات على أن يتضمن اتفاق أوسلو عبارة تؤكد أن الضفة الغربية وغزة وحدة جغرافية واحدة، وأصر على ربط انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة وأريحا معاً. لقد أخرج الكاتب هذا المشروع من الأجندة الصهيونية للترويج لها من جديد اعتقادا منه أن الحرب الدموية في غزة ستفتح حيزاً سياسياً جديداً لتطبيقه على أرض الواقع. إن الكاتب يراهن على انتصار إسرائيل في غزة كي تُلقى الضفة في حضن الأردن بعد أن ضمت إسرائيل كل ما تحتاجه من الأرض الفلسطينية بالمستوطنات والجدار وتهويد القدس.

لم يتحدث الكاتب عن المسؤولية الإسرائيلية في عدم الالتزام بالاتفاقيات السياسية الموقعة بين م.ت.ف وإسرائيل، وقيامها بتغيير الأمر الواقع على الأرض بما ينسف حل قيام الدولتين.

لم يتحدث الكاتب عن المسؤولية القانونية التي تتحملها إسرائيل بعدم الالتزام بقرارات الشرعية الدولية وضربها عرض الحائط بالقرارات الأممية القانونية والسياسية وعربدتها في المنطقة كدولة فوق القانون. يبدو أن ضمير الكاتب من حديد، يكتب كجندي يطلق النار على الشعب الفلسطيني في غزة، يرى الدماء تنزف ولا يطالب بالحد الأدنى بوقف هذا العدوان وتوفير الحماية للسكان المدنيين. كنت أتوقع من الكاتب أن يسأل الإسرائيليين الذين يدعون دائماً أنهم ضحايا المحرقة والنازية، كيف يتحول الضحايا الى جلادين وقتلة للشعب الفلسطيني؟

أطمئن الكاتب بولتون أن إسرائيل لم تنتصر، ولا مرة، على إرادة الشعب الفلسطيني الواعي لحقوقه والمصمم على نيلها، وان انتصرت إسرائيل فقد انتصرت بارتكاب المذابح والمجازر العديدة على مدى هذا الصراع لتصبح دولة فاشية وعنصرية في نظر شعبها كما هي في نظر العالم.. ان خيار الدول الثلاث هو خيار حاول الإسرائيليون تطبيقه ولكنهم فشلوا، فالوطنية القومية الفلسطينية، ومشروع الدولة المستقلة، أصبحا خياراً استراتيجياً للعالم كله، وإسرائيل ليست اللاعب الوحيد في الساحة رغم اختلال موازين القوى.

* عضو المجلس التشريعي الفلسطيني