خطاب إلى النخب اليهودية الأوروبية

TT

اندري غلوكسمان فيلسوف فرنسي من أصول يهودية، بدا مساره الفكري ماركسيا متطرفا، ثم تحول في الأعوام الأخيرة إلى مدافع متطرف عن الحروب الأمريكية في العراق وأفغانستان وعن سياسة إسرائيل العدوانية في فلسطين.

كتب غلوكسمان في صحيفة لموند الفرنسية (6 يناير) مقالا مثيرا بعنوان «غزة؟هل هو رد مفرط؟» دافع فيه بشراسة عن الضربة العسكرية الإسرائيلية، التي خلفت آلاف الضحايا من المدنيين العزل، معتبرا أن الخطاب الاخلاقوي المعترض على الحرب، يفضي إلى منع إسرائيل من حق استخدام تفوقها التقني للدفاع عن نفسها في مواجهة «الحرب الإرهابية» التي يشنها الفلسطينيون عليها. وكما هو شأن فيلسوف فرنسي آخر من أصول يهودية هو برنارد هنري ليفي، وكلاهما ينتمي لتيار الفلاسفة الجدد حسب التسمية الشائعة، فإن غلوكسمان الذي يدافع عن ارث «المثقف العضوي» الملتزم بالقضايا الإنسانية الكبرى يحول الصراع الدائر في فلسطين إلى مواجهة بين الدولة «الديمقراطية المهددة» و«الإرهاب الأصولي الأعمى»، انسياقا مع أدبيات اليمين الإسرائيلي المتطرف.

ويعكس هذا الموقف الانفصامي مأزقا نظريا وأخلاقيا عميقا لدى جانب من النخبة الفكرية اليهودية الغربية، التي انكبت في الستين سنة الأخيرة على التأمل في مسألة «الشر المطلق» الذي شكلته بالنسبة لها تجربة المحرقة في العهد النازي، عبر اتجاهات ثلاثة متمايزة هي:

ـ تثبيت ذاكرة الضحية، لإبراز خصوصية الجريمة وحجمها، واتخاذها إطارا ضاغطا ضد تكرارا لاعتداء. في هذا السياق، ندرك كيف أصبح مجرد التشكيك في وقائع المحرقة جريمة تعاقب عليها القوانين الأوروبية.

ـ التفكير في ظاهرة الاستبداد والكليانية، من حيث هي تجربة إقصاء للآخر تفضي ضرورة للقمع والتصفية، ومن ثم التقليد النظري الواسع الذي تناول علاقة العنف بالشرعية من ريمون ارون الى مايكال وازلر.

ـ التفكير في الغيرية والاختلاف من منطلقات ثقافية يهودية، لمحاولة إبرار خصوصية البعد الإنساني في التقليد اليهودي والدفاع عن أطروحة «التصور الأخلاقي للوجود» في التراث العبري مقابل «التصور الاداتي الذاتي» الذي بلورته الحداثة الأوروبية، مما عكسته بقوة فلسفة امانويل لفيناس الذي هو أهم فيلسوف يهودي معاصر.

من هذا المنظور يتم التعامل مع الكيان اليهودي الجديد بصفته ليس مجرد دولة بمقاييس عادية، تخضع للقوانين الدولية، وتنطبق عليها معايير التصنيف الاعتيادية للبلدان، بل تطلب لها حصانة ذاتية خاصة، بصفتها الدولة التي خرجت من رمزية المحرقة فغدت في آن واحد دليلا على «معجزة النجاة» ونصبا تذكاريا دائما لتثبيت وقائع الجريمة التي حدثت في موقع آخر وفي زمن مغاير. فغلوكسمان الذي وقف ضد الاستبداد السوفياتي، ودافع عن مأساة الشيشان ضد الاعتداء الروسي، وندد بالتخاذل الأوروبي في البلقان، لا يشعر بأزمة ضمير أمام الاحتلال الإسرائيلي ولا لجرائم الإبادة التي تشنها الدولة الصهيونية في غزة، وإنما يستهدف بخطابه النقدي دعاة النزعة السلمية في أوروبا، الرافضين للتجاوزات الإسرائيلية في حرب جائرة غير متكافئة. ومن الملاحظ اليوم أن مفهوم «الحرب ضد الإرهاب» الذي بلورته الأدبيات الإستراتيجية الأمريكية، أدى إلى تحول خفي خطير من مرجعية القانون الدولي التي عوضت المقاربات الدينية للحروب إلى نمط من المرجعية الأخلاقية، التي أدت تدريجيا إلى النكوص لأطروحات «الحرب العادلة» بخلفياتها اللاهوتية المعروفة. فالمكسب الكبير الذي حققته الإنسانية بعد فظائع الحربين العالميتين في القرن العشرين، هو وضع عدة قانونية وتشريعية لتشريع الحروب وتنظيمها من خلال مبدأين بسيطين هما: حصر شرعية الحرب في رد العدوان وحصر ساحة ميدانها في الجيوش المنظمة، مما يعني حماية المدنيين العزل عبر اتفاقيات دولية ملزمة.

فالحرب من هذا المنظور مواجهة سياسية عنيفة لها هدف محدد وقواعد إجرائية دقيقة، مهما كانت التجاوزات التي تنجم عنها. أما الحروب التي تدعي مواجهة الإرهاب ومنها حرب غزة الراهنة، فقد اعتبرت حربا «أخلاقية» لتمويه مسألة شرعيتها، وقدمت عملية بوليسية أمنية لملاحقة المجرم الخارج على الشرعية، وليس العدو الذي له حقوق وقضية، في حين تحولت المدارس ودور العبادة إلى ساحات وغى، والمدنيون إلى عناصر من الجيش الذي لا هوية ولا قسمات له. يقف المثقفون اليهود المتعاطفون مع إسرائيل اليوم أمام محنة حقيقية، تتمثل في السؤال العصي التالي: كيف يمكن الاستمرار في تثبيت استثنائية المحرقة في الوعي الإنساني بعد أن تحول «الضحايا» إلى موقع جلاديهم؟