ضمير الغائب

TT

اشتهر فيودور دوستويفسكي على انه أحد أعظم كتاب الرواية العالميين، ويصرّ البعض على انه اعظمهم. ويعد معظم ما كتب روسي القرن التاسع عشر، او كل ما كتب بالنسبة الى البعض، تحفاً كلاسيكية تجاوز دوامها حوالي القرنين، وقد يتجاوز ذلك الى ما بعد عصر الإنترنت ومستقبليات عالم القراءة ومناهجه.

ويعتبر البعض، وربما المجموع، ان «الجريمة والعقاب» هي رائعة تلك التحف التي تركها للأدب الروسي ومنه الى الادب العالمي. وتحكي الرواية قصة شاب ذكي، فقير، يريد اكمال دراسته للخروج ذات يوم من شقائه وشقاء عائلته. ويتعرف الطالب، راسكولينكوف، على مرابية عجوز، كريهة الأخلاق، تشكل عالة واضحة على كل ما حولها. ما قيمة هذه المرأة، ولماذا تبقى، في حين ان امه وشقيقته الجميلة تعانيان في الريف من الفقر. وها هي شقيقته دينا على وشك الزواج من رجل مبتذل لا تحبه، فقط من أجل ماله. وقد اهانها حتى وهو يطلب يدها، قائلاً لها انها انما تريد ماله وسوف يتأكد من اذلالها بهذا المال.

تتكون في عقل راسكولينكوف جميع الاسباب لارتكاب جريمته والاستيلاء على مال المرابية اللئيمة. وفيما يهوي عليها بالفأس، دخلت شقيقتها فجأة، فكان لا بدّ ان يقتلها هي ايضاً. لكن الجريمة المزدوجة ظلت مجهولة الفاعل. فالشرطة لم تكتشف اثراً لأحد. والمال اصبح في جيب راسكولينكوف. ولكن القاتل لم يعد يقوى على النوم ولا على العيش. كان ضميره يلاحقه اذا نام واذا استيقظ. واكتشف ان عقاب السجن سوف يكون اخف من العقاب الذي يلحقه به ضميره، وفي النهاية لم يرَ حلا الا في ان يسلم نفسه للشرطة، فيدخل السجن ليبدأ المعاناة من عقاب آخر. عقاب الضمير وعقاب الوحدة وعقاب المذلة.

ذلك عصر كان فيه الضمير لا يزال يؤرق الافراد والامم. الآن يمنح ابطال الابادة الجماعية جائزة نوبل للسلام مكافأة لهم على انهم ذهبوا الى التقاعد، او توقفوا عن المزيد من القتل.

يخاطب ايهود باراك العالم قائلا ان «عملية» غزة لم تستكمل «اهدافها» بعد. ولا يكشف لنا ما هي الاهداف ولا كم هو عددها. وليكتفِ الفلسطينيون بثلاث ساعات في اليوم، يشترون خلالها الخبز ويدفنون ضحايا المساء والصبح ويبحثون عن قليل من الكاز لضوء القناديل العتيقة. كان راسكولينكوف فردا يعتبر ان احدا لا يستحق الحياة سواه وعائلته وان مال غيره هو رزقه. لكن ضمير راسكولينكوف كان معلقاً فوق رأسه. وكان هو عقابه الاكبر. والضمير لا يحيا إلا في الروايات. هذا عالم ضميره ضمير الغائب.