روايات المدينة التي لم تكتب!

TT

كنت أرافق الروائي والإعلامي اللبناني أحمد علي الزين، والشاعر والروائي السعودي عبد الله ثابت، والباحث التراثي السعودي عدنان الشريف مساء الخميس الماضي، في جولة على المنطقة التاريخية، من مدينة جدة.

حينما وصلنا إلى هناك كانت «الرواشن» تظلل الأزقة الضيقة، وشجرة النيم المعمرة أمام دار الأفندي نصيف الأثرية، لم تزل تعيش النشوة نفسها، التي كانت عليها من قبل، عندما كنا نغني تحت أغصانها صغاراً «يا شجرة ميلي، كيف أميل، ميلي على جنبك اليمين»، فكانت تنحني دلالا، لتمطر رؤوسنا الصغيرة ببعض خصلات أغصانها قبل أن تستقيم، وتعتلي بأوراقها من جديد. في طريقنا مررنا ببقايا آثار تلك العين، التي جلب ماءها السلطان المملوكي قنصوه الغوري، قبل أكثر من خمسة قرون، لتروي ظمأ هذه المدينة.

وتأخذنا الأزقة والحواري إلى مدرسة الفلاح، أول مدرسة عصرية في شبه جزيرة العرب، بقبتها التاريخية، ومبناها المميز، لتقودنا الدروب بعد ذلك إلى الجامع العتيق في حارة المظلوم، ذلك الجامع الذي بُني بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب، وحينما كنت أشير إلى المئذنة العتيقة الشامخة الشاهقة السامقة على مدى ثمانية قرون، كان الأذان ينهمر عذباً منها «الله أكبر، الله أكبر»، فيختلط عطر النداء برائحة التاريخ بوقار السنين.

وكان حديث أحد أشهر عُمَد المدينة، عبد الصمد محمد عبد الصمد، عن مكانة العمدة تقليدياً في الحياة الاجتماعية، مسك ختام، تلك الجولة التي تحدثنا عنها كثيراً بعد ذلك، ونحن نعتصر آخر القطرات في كؤوس الشاي في أحد المقاهي الحديثة على كورنيش المدينة.

كان الجميع يؤكد أن هذا الكنز الجمالي والتراثي يمثل أعظم هدايا السلف إلى أجيالنا الجديدة، وأن التعامل معه ينبغي أن يكون وفق رؤية منهجية، تستفيد من كل خبرات المدن العريقة، التي لها تجربتها في الحفاظ على تراثها المعماري، وتوظيف ذلك التراث لخدمة أغراضها الثقافية والسياحية والاقتصادية. وفي تقديري أن الكثير من بيوت هذه المدينة وأسواقها العتيقة بأنسها وناسها، هي قصائد لم تُنشَد، وروايات لم تكتب بعد، فهذا الجزء التاريخي بمساحته المحدودة يختزل أحداث قرون طويلة مرت على هذه المدينة، تأرجحت خلالها جدة في أرجوحة الزمن صعوداً وهبوطاً، وكانت قد تعلمت من معزوفة المد والجزر على شاطئها أن تكون دائماً في انتظار الفرح.

[email protected]