ما بعد غزة

TT

تقريبا انتهت حرب غزة لكن حروبها الموازية مستمرة. العالم العربي كان ساحة وغى حقيقية بين الأنظمة والتنظيمات ومجاميع مختلفة المصالح. وما رأينا خلال الاسبوعين الماضيين لم يكن كله نصرة لأهل غزة، ولا حبا في حركة حماس، ولا كرها في الاسرائيليين فقط، انما أيضا شرائح أرادات استغلال قضية عادلة، لخدمة «اجندات» محلية وإقليمية. جماعات استفادت لتبني مواقع وتحشد لنفسها، شبابا ومالا وتأييدا عاما.

غزة ليست الحرب الاستثناء بل هي القاعدة، ما نشاهده نسخة مكررة عن الأزمات الماضية. ففي الثماني سنوات ثارت اكثر من اربع حروب استغلتها الجماعات بنفس الطريقة، الجديد أنها صارت اكثر خبرة واسرع حركة. رأينا كيف هاجت وسائل الاعلام المحلية والعربية، بما فيها الرسمية، تمطر صورا ونداءات، وقصائد، واموالا، ومتطوعين. السيناريو يتكرر ويستخدم الحدث، يتغلغلون في المجتمع ويمتطون ظهر الحكومات التي لا ترى عادة أبعد من انفها.

في بدايات معارك تنظيم القاعدة استعاذ حينها كثيرون لأننا ننتقد التنظيم الاسلامي، مصرين على نبل أهدافه. وطمأنني أحدهم ردا على تحذير كتبته من ان هؤلاء سينقلبون عليكم، قال هؤلاء ابناؤنا، وما يرتكب من جرائم في الخارج يستحيل ان يرتكبوه على أرضنا التي هي أرضهم، وقضيتنا قضيتهم. ولم يطل بنا الانتظار حتى اكتشف الجميع ان المال والرجال والشعارات انتكست علينا. ودخلنا في حروب مع القاعدة، لم نشهد مثل دمويتها من قبل قط. ورغم فداحة الخطأ لم يراجع أحد موقفه، او يعترف بانه أخطأ عندما كان يبرر ويتبرع ويتطوع وكان الملام الشباب المسكين الذي صدق وتطوع وقاتل ثم لوحق من نفس الذين شجعوه.

تكرر الأمر في العراق، وانجرفت العواطف والاقلام والاموال، والإعلام بما فيه الإعلام الرسمي وشبهه، بلا ادنى تفكير او تفريق. وجاءت النتيجة مماثلة، فجأة سكت التأييد وبدأت حملات ملاحقة هؤلاء الشباب وهم كالجراد بالآلاف في محاولة لوقف الضرر. أي منطق عجيب هذا؟ كيف تشن حملة دعائية تحرضهم، وعندما يصدقون، ويلبون النداء تبدأ في مطاردتهم؟

ثم دخلنا حربا ثالثة من بطولة حزب الله، الذي خطف جنديين اسرائيليين وادخل ثلاثة ملايين لبناني في حرب مدمرة. تكرر السيناريو، هاجت وماجت المجتمعات العربية، وكالعادة اعطت حبل القيادة للجماعات المتطرفة المحلية والمجاورة، التي سخرتها لأهدافها مستفيدة من همجية الاسرائيليين، وانقاد كثيرون وراء الحملات بدون تبصر. وكالعادة اتهمنا أهلنا وخونونا. لم يطل الأمر حتى بانت الحقيقة وصدم الناس عندما استدار حزب الله واحتل بيروت الغربية.

ما يحدث في غزة جريمة اسرائيلية بشعة لان ضحاياها هم اضعف الناس، الاطفال والنساء والعزل عموما القابعون في بيوتهم او مدارسهم او مساجدهم. وكما حدث في معارك القاعدة والعراق ولبنان، تتغذى وتنمو على هامش القضية العادلة نباتات طفيلية تستغل المأساة لتحقيق اهداف اخرى. هذه الفئات، محلية واقليمية، تستغل كل ازمة لارتكاب ما لا تستطيع فعله في الايام الهادئة، والحكومات الساذجة دائما تعتقد انها تزايد على المزايدين حتى «لا يخطفوا منها الشارع»، لكنها في حقيقة الامر تمنحهم المزيد من الوقود والمال والرجال والحبال ليشنقوها به.

أخيرا، علينا ألا نخلط بين الحق والباطل، فالتعاطف مع غزة مشروع، والدعم لأهلها واجب، والتحرك السياسي ضرورة، وهذا صحيح في كل الحالات السابقة في لبنان والعراق وافغانستان. الإشكال يكمن في المزايدات، والخلط بين المظلومين والانتهازيين الذين يريدون استخدام المآسي لمصالحهم. أيضا مبروك للذين ما فتئوا يرتكبون الغلطة وراء الغلطة ولا يتعظون، من بن لادن الى حزب الله واخيرا حماس.

[email protected]