الصحافة خذلت الغالبية الصامتة

TT

أجد نفسي محاصرا، مثل الغالبية الصامتة من سكان غزة غير المنتمين سياسيا لأي جماعات.

المرض يحاصرني في الفراش فعجزت عن تغطية الاحداث. المرات القليلة التي شاركت فيها (اثنتين في خدمة البي بي سي العربية والانجليزية وشبكة سكاي واذاعات بالتليفون من الفراش) وادت لتدهور حالتي الصحية فأمر الطبيب بحجزي جبريا في سرير المرض وتحديد فترات النظر لشاشة اللاب توب وتعيين ممرضة لا تقبل اية ظروف استثنائية، حتى اشعار آخر.

المشاركة المحدودة، خاصة في المحطات العربية، ومتابعتي لتغطية الاعلام العربي، سببت لي ازعاجا معتبرا بسبب تشويشها المعلومات في ذهن القراء والمستمعين والمشاهدين (سأسميهم «المستهلك الاعلامي»)، اوتضليلهم باستبدال حقائق قانونية ومعلومات صحيحة بمعلومات خاطئة من «تخاريف» مناضلي الفضائيات والصحف الصفراء.

اسباب هذه التضليلات متعددة، ولو كانت هناك مساءلة حقيقية لاحتاجت كل وسيلة اعلام الى دراسة لجنة تقصي حقائق من المتخصصين في الصحافة والمحامين الدوليين لتحديد الاسباب وتلافيها في تغطية صراعات كالدائرة بين اسرائيل وحماس.

من ملاحظاتي ومشاركتي المحدودة، سأحاول تنبيه القارئ العزيز لما لمسته من قصور في أداء كثير من الصحفيين ومقدمي البرامج ومعديها والمحررين المشرفين على وسائل الاعلام الناطقة او المكتوبة بالعربية، واحيانا بالانجليزية.

واجبي ككاتب مسؤول امام قرائي تنبيههم لمعلومات خاطئة اصبحت شائعة ويعاد تكرارها بضع مرات في اليوم وكانها حقيقة واقعة.

مثلا هناك قصور واضح في البحث في خلفية المعلومة والتاكد من صحتها قبل نشرها او بثها.

خطأ الاسرائيليين بحظر دخول الصحفيين الى غزة جعل من الصعب التأكد من صدق المعلومات (واغلبها بروباغندا) التي يزود بها الطرفان، حماس واسرائيل الصحافة عن الضحايا والخسائر بينهما.

لكن مثلا يمكن على الاقل التحقق من خسائر الاسرائيليين بمتابعة سجل المستشفيات ومراقبة مسيرة سيارات اسعاف الجيش، والجنازات العسكرية للجنود الاسرائليين (شعائر الديانة اليهودية تلزم بالدفن قبل غروب شمس يوم الوفاة) ومقارنة ذلك بتصريحات حماس عن الخسائر التي اوقعتها بالجيش الاسرائيلي.

وبالمقابل مراجعة تقارير الامم المتحدة والمنظمات الصحية الانسانية من غزة يمكن مقارنتها بتصريحات، حماس واسرائيل وترك الحكم للمستهلك الاعلامي. (اذا عثر احد القراء على تقرير فضائية عربية يضم هذه المعلومات ومصادرها فليمدني مشكورا بتاريخ وموعد البث).

هناك معلومات موجودة في السجلات وعلى مواقع رسمية على الانترنت، وليس هناك «جنود اسرائليون» او «مقاتلون من حماس» يمنعون الصحفي او معد البرنامج او مقدمه من بحثها على الانترنت او في مكتبة (ارشيف) الصحيفة او المحطة، وهو امر بالغ السهولة يمكن تنظيمه في دقائق بوسائل الاتصال الحديثة مقارنة بجيلي في ستينات القرن الماضي عندما كنا نخابر الاكاديميين والديبلوماسين تليفونيا ونطالع الكتب ونزور مراكز التوثيق ونفحص الخرائط للحصول على المعلومة مما يستغرق ساعات واحيانا اياما.

والى جانب الكسل ونقص التدريب والخبرة، كبعض اسباب عدم التحري عن دقة المعلومات، لاحظت خطأين كبيرين ارتكبهما العديد من الصحفيين العرب.

اولهما الخلط بين الرأي وبين الخبر المعلوماتي. ومسألة افتعال «التوازن» بوضع مصدرين مختلفين او خصمين في شبه مناظرة تلفزيونية هي مسألة هزلية اذا كان احدهما او كلاهما مخطئا في المعلومات ولا يتدخل مقدم البرنامج لتصحيح المعلومات.

والثاني تجاهل الصحفي المهام الاساسية لوسيلته الاعلامية وحق المستهلك الاعلامي في المساءلة والمحاسبة accountability .

فالصحيفة الحزبية تعلن التزامها الايديولوجي، واخرى تروج لمصالح اصحابها، وانتاجها output يختلف عما يتوقعه المستهلك الاعلامي من الاعلام الممول من دافعي الضرائب (كالخدمات الخارجية – بما فيها العربية - للبي بي سي وصوت امريكا والـ24 الفرنسية الخ) او مباشرة من الحكومات (كالجزيرة القطرية وبقية القنوات الحكومية)؛ او مباشرة عن طريق رسم (رخصة) يدفعها كل بيت (كالبي بي سي العمومية قوميا) فيمنحها استقلالية تحسدها عليها بقية وسائل الاعلام.

نسي بعض المحررين ان الاستقلالية عن تمويل مالك او معلن تعني الحيادية التامة وحق الشعب (كممول حقيقي) في محاسبتهم ومطالبتهم بحق تزويده بالمعلومة الصحيحة.

وبعضهم تناسى لنقص حرفيتهم او ضحالة تدريبهم او انحيازهم ايدولوجيا (وهو اكبر ذنب مكروه في العمل الصحفي).

مثلا تشويش المعلومات حول فتح واغلاق معبر رفح بين مصر وغزة بزعيق مناضلي الفضائيات حنجوريا (من الحنجرة) بادانة مصر لعدم فتح المعبر كان اكثر الاخطاء شيوعا بين معظم وسائل الاعلام بما فيها البي بي سي بجميع فروعها.

ادارة معبر ربح تخضع لاتفاقية تتبع لجنة من الاتحاد الاوربي يشرف ممثلوها على فتح المعبر الذي اغلق بسبب رفض حماس الالتزام باتفاقيات ملزمة قانونية وقعتها الادارة الفلسطينية. هذه المعلومة، المتوفرة على مواقع رسمية كالاتحاد الاوروبي، ووزارات خارجية بلدان مختلفة لم يكلف غالبية معدي البرامج انفسهم عناء ضغط مفاتيح الكمبيوتر والاطلاع عليها، واكتفوا بالتفرج على، او الانخراط، في «زفة» ادانة مصر.

الاتفاقية تتيح لمصر فتح المعبر مؤقتا في حالات طارئة لانقاذ حياة افراد.

مصر في اول ايام الصراع ارسلت قافلة طويلة من سيارات الاسعاف بموافقة الاتحاد الاوروبي بفتح المعبر لنقل الجرحى لعلاجهم في مصر.

الصور متوفرة وهناك شهود لرفض قيادات حماس نقل الجرحى مشترطة فتح المعبر «سبهللة» (كلمة مصرية تعني بلا ضابط) للجميع (بمن فيهم المهربون) وهو امر خارج اطار الاتفاقية. تجاهلت الفضائيات الصور والشهود واستمرت في ادانة مصر.

مثال آخر من مشاركتي في نشرة اخبار بالعربية في فضائية مستقلة (بفضل دافعي الضرائب) في فقرة شرح الديبلوماسية.

حاولت عبثا شرح آلية صياغة قرارات مجلس الامن، فاستمر مقدم البرنامج الشاب الفقير الخبرة في مقاطعتي مطالبا صحفي فلسطيني راديكالي «بالرد» رغم انني لم اقدم رايا بل اكتفيت بسرد معلومات خالصة من كتيب الامم المتحدة.

وهناك صحفي فلسطيني «مناضل» نقل في اذاعة بي بي سي عن قريبه القيادي في منظمة فتح اتحادهم واشتراكهم مع حماس في قتال اسرائيل؛ فردت مقدمة البرنامج (المستمر لثلاث ساعات) الادعاء ببغائية، ولم يتصل محرر البرنامج بممثل السلطة الفلسطينة الشرعية في لندن، او ممثلي فتح في غزة للتحقق من صحة الادعاء.

المساحة لا تتسع لسرد امثلة كثيرة، لكن المحزن في الامر تدني المستوى المهني بهذا الشكل المضلل للمستهلك الاعلامي، مما قد يخلق رأيا عاما جاهلا بالحقائق يسهل على مثيري الشغب والجماعات الارهابية استغلاله لاغراض خبيثة؛ اقلها ضررا عرقلة الحلول السلمية والمهام الديبلوماسية لانقاذ الغالبية الصامتة من اضرار الحرب ثم مساعدتها لفك الحصار.