دعونا نوقف المحرقة أولا

TT

كان رئيس المخابرات الاسرائيلي السابق آفي ديختر في مقابلة علي شاشتي «الجزيرة» و«العربية»، يحمّل فصائل المقاومة الفلسطينية المسؤولية عن محرقة قطاع غزة. وعلى صوت القنابل بأنواعها وآلاف الضحايا بأعمارها كان يدّعم موقفه باستشهاده بلقطات واقوال من تلفزيون «فلسطين» او تصريحات قيادات عربية ورؤساء عرب ووزراء خارجية صدرت في وسائل الاعلام المختلفة. وفي الوقت نفسه كان السؤال الكبير مطروحا في استطلاعات الرأي في الوسائل الاعلامية المقروءة والالكترونية، ألم يكن بإمكان حركة حماس ان تتجنب هذه المحرقة بموافقة على تمديد التهدئة؟ في بعض استطلاعات الرأي كانت النتيجة ان اكثر من 60 في المائة قالوا انه لم يكن بامكانها تجنب ذلك.

وعلى العموم، فالمذبحة بدأت وتحتاج لأعصاب حديدية، أو أن تكون بلا قلب، كي تستطيع متابعة ما يجري في قطاع غزة من مناظر تنخلع لها القلوب، وتذرف العيون من مآقيها الدمع والدم.. على دموع ودم اطفال ونساء ورجال استبيحت انسانيتهم جوا وبرا وبحرا.

التهدئة السابقة اتخذت بإجماع الفصائل، ولأن الجانب الاسرائيلي لم ينفذ منها شيئا، ولأن الوسيط المصري لم يلزمه بشيء ايضا، قررت الفصائل الفلسطينية باجماعها عدم التمديد للتهدئة.. والذين قالوا في المرة الأولى ان الفصائل كلها اتخذت قرارا حكيما، قالوا في المرة الثانية، ان حركة حماس اتخذت قرارا متهورا، فإبرام التهدئة اتخذته الفصائل وقرار انهائها اتخذته حماس، اذن فهي المسؤولة عن استشهاد العباد في المساجد والاطفال في المدارس والنساء في المنازل.

واللافت ان كثيرين ممن يقولون ذلك كانوا يتهمون حركة حماس بالامس، بأنها تركت المقاومة ولهثت خلف تهدئة مجحفة.

وحتى لا تضيع كثير من الحقائق وسط تراكمات الاحداث وتسارعها، علينا ان نتذكر ان الفصائل المنضوية تحت منظمة التحرير الفلسطينية، خاصة الجبهتين الشعبية والديمقراطية، اعلنت عدم تجديد التهدئة، قبل ان تعلن حركة حماس ذلك، وكذلك فعلت كتائب الاقصى التابعة لحركة فتح والجهاد الاسلامي، فإن كان اؤلئك الذين اطلقوا للمزايدة العنان على حركة حماس بأنها تلهث لتهدئة بأي ثمن، ان يتذكروا الآن وهم يحملونها المسؤولية، ان القرار كان بإجماع الفصائل، فالمسؤولية جماعية ولا تتحملها حركة حماس وحدها.

وعلينا ان نتذكر جيدا ان انهاء التهدئة قرار فلسطيني مجمع عليه، ولعله من المفيد ان تٌسأل الجبهة الشعبية والديمقراطية والجهاد الاسلامي وكتائب الاقصى عن ذلك. ولو اتخذت حركة حماس موقفا آخر لرأينا من يحملها المسؤولية الآن، وهو نفسه من يتهمها بتقييد المقاومة ومنع الفصائل من القيام بواجبها.

ولعل من الحكمة ان ينتظر من يحمل الشعب الفلسطيني، مذبحة الشعب الفلسطيني، ان يتريث قليلا فإن انتصرت المقاومة شاركها صناعة الانتصار، وان تراجعت لا يٌشار اليه باصبع الاتهام كشريك للاحتلال.

ولعل من اخطر ما وصلت اليه القضية الفلسطينية ان تحمل المقاومة مسؤولية معاناة وتضحيات الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وتحمل السلطة الفلسطينية ودعاة المسيرة السلمية معاناة اهل الضفة الغربية، من دون ان يحمل الاحتلال المسؤولية عن جرائمه ومذابحه للشعب الفلسطيني بأسرة.

وحتى نخرج من دائرة المزايدة الوطنية، لنتذكر شلال الدم وخيط الموت الذي يشده اصبع الحصار بلا رحمة، وكانت غزة تدفن ضحاياها بصمت في ظل حصار مقيت لا قلب له، في الوقت التي كانت فيه اللقاءات الحميمة، التي كانت لا تتعدى القبلات والسلامات وتناول وجبة غداء تعطي المحتل مظلة الانسانية والوداعة واوسمة السلام وغزة تحتضر تحت الحصار، هي تستحق ذلك لأن حكومتها اوردتها المهالك. اما الضفة التي تئن تحت الحواجز بالمئات والاعتقالات بالآلاف والوحدات الاستيطانية بعشرات الآلاف هي سينغافورة الشرق الاوسط، بفضل حكومتها العاقلة الحكيمة!

يا سادة، ان الاحتلال يحرق حركة فتح في دائرة وهمية لا نهاية لها، حتى فقد الناس الثقة بها، وفي الوقت نفسه فإنه يسعى الى ان يزعزع ثقة الناس بحركة حماس، من خلال الاجتياح والقتل والترهيب، والنتيجة شعب فلسطيني بعمود فقري مكسور يستقوي عليه الاحتلال متى وكيف شاء.

لنعد الى القطاع. الصورة واضحة بلا غبش ولا شكو، إما الموت او الموت، وبين الموتين علينا ان نقرر أي الموتين ارحم؟! وأنا اعتقد ان اتهام المقاومة وتحميلها مسؤولية ما آلت اليه الأمور، هو ما شجع الاحتلال ان يطلق شعار حملته التي سماها الرصاص المنصهر، واطلق عليها شعارا «اضرب بقوة لا تكترث بالرأي العام».

ورغم ان غبار المعركة لم ينجل بعد، الا ان المؤشرات لا تشير الا بمعجزة صمود فاقت التصورات، الا ان البعض مصر ان يثبت وجهة نظره، بجنون وتهور المقاومة، حتى وان تطلب الأمر طعنها في الظهر.. ففي الوقت التي تستبسل فيه في الدفاع والهجوم، تطعن هذه المقاومة المشرفة في ظهرها وخاصرتها بالإشارة باصبع الاتهام لها بالجنون والبعد عن العقلانية، فهل عقلانية الآخرين رفعت اكثر من 600 حاجز في الضفة، وعطلت وهدمت مئات المستوطنات واطلقت 11000 اسير، وامنت البلاد واغنت العباد؟

ان تكسر حماس وفصائل المقاومة خسارة للشعب بأسره، فليتذكر الجميع ان الاحتلال عندما كان يقدم بعض الانجازات القليلة كإطلاق بعض الاسرى او دفع اموال الضرائب او بعض تصاريح التنقل لبعض المسؤولين في السلطة كانت اسرائيل تعلن بالتوازي مع مثل هذه التقديمات، انها تقوم بذلك لدعم وتعزيز الرئيس الفلسطيني محمود عباس في وجه حركة حماس، فلو لم تكن حركة حماس هل كانت اسرائيل تعطيه شيئا لتعزيز مكانته في وجهها مثلا؟! اقصد باختصار ان قوى المقاومة القوية غير المكسورة، عصا يلوح بها حتى من اراد ان يتفاوض.

اما كيف تصمت القذائف، وتٌحمى رؤوس الابرياء من حمم النار، فلا يمكن ان تصنعها المزايدة واغماض العين وقراءة السطر الأخير من رواية المعاناة بعين واحدة وسط الدخان المتصاعد بلا توقف وتحت عنوان العقلانية وتكافؤ القوى، فلعل هذا يبدو مقنعا لو كانت الشعوب العربية التي يحكمها العقلاء والواقعيون الحكماء، هي ليست من افقر الشعوب واكثرها ألما وقهرا.

عندها يمكن ان يقنعونا جميعا بالواقعية ونبذ الجنون. ثم هل تكافؤ القوى والعقلانية منعت الشعب المصري ألا يقاوم الاحتلال الانجليزي، والثورة الفرنسية الا تواجه المحتل النازي، والثورة الجزائرية الا تفقد ما يزيد عن المليون امام الاحتلال الفرنسي. اما الآن وقد طفح الكيل، دعونا نصلح شراعنا، ونوحد درعنا قبل ان نغرق جميعا، ونحن نتلاوم امام جثث الاطفال التي كتبت هذه السطور على بشاعة مناظر قتلها ورائحة دمائها، الا اذا كان المقصود ابادة القطاع كي يؤدب البعض قيادة حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، لكي تقبل بالمعروض بلا امتعاض او جدل.

وإذا كان الشعب الفلسطيني ضعيفا امام الاحتلال الاسرائيلي، فإن لكل ضعيف نقطة قوة ولكل قوي نقطة ضعف فتعالوا نبحث عن قوة في ضعفنا وضعف في قوة عدونا، لنكتشف ان وحدة شعبنا، هي القوة التي نريد، وضعف الاحتلال الذي لا يريد.

* وزير الحكم المحلي

في حكومة حماس

وحكومة الوحدة الوطنية سابقا