السيناريوهات المحتملة للعدوان الإسرائيلي ولما بعده

TT

مَنْ يتصور أن إسرائيل ستعطي غزة إذا أعادت احتلالها على طبق

من فضة للسلطة في رام الله مُخطئٌ

قبل أن نتوقف أمام السيناريوهات المختلفة للعدوان الإسرائيلي على غزة، ولما بعد هذا العدوان، علينا أن نتوقف أمام المعطيات التي سبقته والسياق السياسي الذي جاء فيه. لقد شهدت المنطقة عشية العدوان الإسرائيلي على غزة، الأحداث المهمة التالية:

أولا: الأزمة الحكومية الإسرائيلية التي دفعت اسرائيل نحو إجراء انتخابات مبكرة، حيث تسود فيها حمى الانتخابات وتكثر المزايدات وإظهار التطرف ضد الفلسطينيين للحصول على أصوات الناخب الإسرائيلي.

ثانيا: إخفاق عملية السلام، حيث انقضى عام 2008 بدون الوفاء بوعد بوش ووعد مؤتمر أنابوليس بالتوصل الى إقامة دولة فلسطينية أو الى اتفاق سلام قبل نهاية العام المنصرم.

ثالثا: اندلاع الأزمة المالية العالمية التي وجهت ضربة قوية للاقتصاد العالمي، وستأخذ الأولوية في الأجندة العالمية خلال السنوات القليلة القادمة.

رابعا: صعود الدور الإيراني سواء لجهة استمرار البرنامج النووي الإيراني، أو لجهة تعاظم الدور الإيراني في المنطقة، مما أدى الى جهود أميركية حثيثة لبلورة حلف عربي أميركي للوقوف في وجه إيران، ولا يعيق قيام هذا الحلف سوى عدم حل القضية الفلسطينية لتشجيع العرب المعتدلين للمضي في تشكيل هذا الحلف.

خامسا: نجاح باراك اوباما برئاسة الولايات المتحدة، وهو يحمل برنامجا طموحا للتغيير يهدف الى إنقاذ الولايات المتحدة من عقم سياسة الرئيس جورج بوش التي أدت الى إخفاقات وحروب ومغامرات وفوضى على امتداد العالم، كنتيجة لتحكم المحافظين الجدد بإدارته، خصوصا في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان.

سادسا: فشل الحصار الخانق على غزة في إسقاط أو احتواء حركة حماس في إطار النظام السياسي الفلسطيني، مما أدى الى ارتداد اسرائيل على التهدئة بدليل الخروقات الإسرائيلية. فإسرائيل كانت ستضرب حماس سواء إذا وفرت لها ذرائع أم لا، فحماس عقبة أمام المساعي الأميركية ـ الإسرائيلية لفرض تسوية على الفلسطينيين تتيح بلورة الحلف الأميركي ـ العربي في مواجهة إيران. كان على الفلسطينيين استقراء مسار الأمور واستنتاج الدروس والعبر والاستعداد للحرب الإسرائيلية القادمة بالعمل الجاد أولا: لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على أساس برنامج وطني لا يقر ولا يسعى لاعتماد الشروط الأميركية ـ الإسرائيلية، وثانيا: بالبحث عن مسار سياسي جديد، ومطالبة المجتمع الدولي وإدارة اوباما بوضع سياسة جديدة قادرة على حل الصراع وليس إدارته من خلال جعل المفاوضات تستند الى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وتكون قادرة على إنهاء الاحتلال وتجسيد الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.. اختارت اسرائيل توقيتا مناسبا لعدوانها، فحماس متعبة بعد الحصار الخانق، وهي على خصومة مع مصر والسعودية، والانقسام الفلسطيني يتعمق أكثر وأكثر، والخلافات العربية ـ العربية تطفو على السطح وتشل الإرادة العربية، والولايات المتحدة تمر بفترة فراغ في السلطة، فهناك رئيس منتخب لم يتسلم مهامه بعد، ورئيس راحل لم يرحل بعد، كما أن فترة الأعياد مناسبة للحرب، فكل زعماء العالم تقريبا في إجازة. إن أهداف اسرائيل من العدوان متنوعة، معلنة ومخفية، مباشرة وبعيدة، ولكنها تتمحور حول إزاحة حماس عن الطريق لفرض تسوية للصراع الفلسطيني والعربي الاسرائيلي تناسب الشروط والمصالح الإسرائيلية، وتفتح الطريق لإقامة الحلف المذكور في مواجهة إيران. ويقف في مقدمة الأهداف الإسرائيلية أيضا، استعادة قوة الردع الإسرائيلية، التي تضررت كثيرا في الحرب اللبنانية الأخيرة، وفي عدم قدرة اسرائيل على وقف إطلاق الصواريخ من غزة. وضعت اسرائيل أهدافا متواضعة مثل توجيه ضربة قوية لحماس، ومنع إطلاق الصواريخ الآن وفي المستقبل وفرض تسوية إقليمية ودولية عليها لا تشارك حماس في التوصل إليها، ووضع ترتيبات دولية تمنعها من الحصول على السلاح، ضمن ما سمته تغيير قواعد اللعبة تارة، وتغيير الواقع الأمني في غزة تارة أخرى. وإذا استطاعت اسرائيل استعادة قوة الردع وفرضت اتفاقا لوقف إطلاق النار بشروطها، فهذا يعني تأكيد تفوقها العسكري مجددا ليس على حماس لوحدها أو الفلسطينيين لوحدهم، بل على العرب مجتمعين. أما بالنسبة للأهداف الإسرائيلية البعيدة من الحرب على غزة، فلا يمكن التعرف عليها إلا من خلال التوقف أمام البدائل المفضلة لدى اسرائيل. فما هي البدائل المفضلة لإسرائيل: أولا: استمرار الوضع الراهن. فإسرائيل محتلة بدون أن تتحمل المسؤولية عن احتلالها، احتلال خمسة نجوم، وطرف في عملية السلام بدون سلام، وبصورة مكنت اسرائيل من استخدام المفاوضات لإضاعة الوقت وقطع الطريق على الجهود والمبادرات الأخرى، عبر الإيحاء بأن الحل على الأبواب، ولكن اسرائيل باتت تدرك أن استمرار الوضع الراهن مستحيل، وأنها يجب أن تبادر للحل قبل أن يفرض عليها حل غير مناسب لها. ثانيا: فرض حل يقضي بإقامة دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة على جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتأجيل قضايا اللاجئين والقدس والحدود أو حلها بشكل لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المكرسة بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. ثالثا: العودة للخطوات الإسرائيلية أحادية الجانب، التي بدأتها حكومة شارون بخطة فك الارتباط عن غزة. وكان من المفترض أن تواصلها حكومة ايهود اولمرت زعيم حزب كاديما الذي قام على فكرة واحدة هي الانطواء، وقام بتجميدها بعد أن هزمت اسرائيل بالحرب اللبنانية الأخيرة، وبعد أن تواصل إطلاق الصواريخ والقذائف من غزة الى اسرائيل، مما أثبت أن الخطوات احادية الجانب لا تجدي، ومن ضمن هذه الخطوات التهجير وتبادل الأرض والسكان. رابعا: عودة الوصاية المصرية على غزة، والسيطرة الأردنية على الضفة. وعلى ضوء ما سبق، فإن السيناريوهات المحتملة للحرب الحالية تنحصر في ثلاثة:

السيناريو الأول: أن تنتصر اسرائيل، بمعنى أن تنجح في تحقيق أهدافها أو جزء مهم من أهدافها، وهذا يمكن أن يتحقق من خلال تحقيق انتصارات عسكرية حاسمة وتوجيه ضربة قاصمة لحماس، قد تصل الى إنهاء حكمها وتكسر إرادة الفلسطينيين على الصمود والمقاومة وإقامة ترتيبات إقليمية ودولية تمنع حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية من إطلاق الصواريخ والقذائف على اسرائيل، وتمنع تهريب السلاح، وعدم ربط وقف إطلاق النار أو التهدئة الجديدة برفع الحصار وفتح الحدود والمعابر، لأن اسرائيل تريد رمي غزة في حضن مصر. وإذا نجحت في ذلك ستكرر نفس السيناريو بالضفة، أي سترمي الضفة بعد الحصول على كل احتياجاتها منها خصوصا القدس في حضن الأردن. وهذا سبب تحذير العاهل الأردني من المؤامرة على مستقبل القضية الفلسطينية، ومما بعد غزة!! لذلك أقول لمن رقص على انغام العدوان وتصور أن اسرائيل ستعطي غزة إذا أعادت احتلالها على طبق من فضة للسلطة بأنه مخطئ وواهم تماماً. فكما قالت ليفني إن إسرائيل لم تطلب إذنا من أحد ولا تخوض معركة أحد. ومن يتسلم غزة إذا احتلتها يجب أن يستحقها أي أن يكون عميلا لإسرائيل. وإذا انتصرت اسرائيل ستكون أقوى بكثير لفرض شروطها على الفلسطينيين جميعاً وليس على حماس لوحدها.

السيناريو الثاني: أن تنتصر غزة، وهذا يكون بنجاح المقاومة بقيادة حماس بوقف العدوان بدون أن يحقق أهدافه، عن طريق:

1ـ استمرار قصف جنوب اسرائيل حتى اللحظة الأخيرة التي يتفق عليها على وقف متبادل لإطلاق النار.

2 ـ تكبيد اسرائيل خسائر بشرية ملموسة.

3 ـ استمرار وتصاعد حملة التضامن الشعبي والعربي والإسلامي والعالمي مع غزة.

4 ـ تثبيت سلطة حماس في غزة من خلال عقد الاتفاق معها ومشاركتها في الوجود على معبر رفح، وبداية الحصول على اعتراف عربي ودولي، وحتى إسرائيلي بها.

السيناريو الثالث: أن تنتهي الحرب بصيغة لا غالب ولا مغلوب، أي أن اسرائيل لا تحقق أهدافهَا أو معظم أهدافِها، وتتلقى حماس ضربات قاسية جدا لا تدفعها الى الاستسلام ولكن تجبرها على قبول صيغة تؤدي الى وقف طويل الأمد لإطلاق النار، مع وجود أو بدون وجود قوات عربية ودولية أو مراقبين دوليين، ولكن حماس ستبدو في هذه الحالة مهزومة عسكرياً ولكن منتصرة سياسيا وشعبيا. فهي صمدت طويلا وقاومت ببسالة، ولن ترضى ألا تقبض ثمن ذلك بتعزيز دورها الفلسطيني. ورغم أن الوضع العربي في أسوأ حالاته لدرجة تفاقم الخلاف العربي إبان العدوان.. إن حماس قادت الحرب الحالية، وهذا يحدث لأول مرة. فالحروب الإسرائيلية ـ الفلسطينية في العقود الماضية، قادتها حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية والرئيس الراحل ياسر عرفات. ومهما كانت نتائج الحرب، فإن حماس ضحية ومقاومتها مشروعة وستكون قادرة خصوصاً إذا استمرت غزة صامدة وتقاوم على تحويل الخسائر العسكرية الكبيرة، والدمار والدماء الغزيرة، الى نصر سياسي متسلحة بموقفها الدفاعي، وأن قضيتها عادلة وإن التحركات الشعبية على امتداد العالم كانت تدين اسرائيل وتدعو لدعم المقاومة الفلسطينية وتحقيق الوحدة على أساس برنامج وطني مقاوم لإسرائيل. فما دامت المفاوضات لم تنجح، فلا بديل عن الوحدة على أساس برنامج وطني ديمقراطي واقعي يجمع ما بين المفاوضات المثمرة والمقاومة المثمرة، برنامج قادر على إقناع اسرائيل أن البدائل المفضلة لديها مرفوضة من الفلسطينيين، وأن هناك بدائل مفضلة للفلسطينيين تبدأ بالتمسك ببرنامج إنهاء الاحتلال والعودة والدولة الفلسطينية، وتمر بإعادة تقويم السلطة ووضعها في خدمة البرنامج الوطني، وكأداة في يد المنظمة التي بحاجة الى إصلاح وتطوير وإعادة تشكيل، وتنتهي البدائل الفلسطينية ببرنامج الدولة الواحدة الديمقراطية. إن حماس ستكون قادرة في معظم الحالات على تعزيز نفسها كلاعب فلسطيني رئيس. يمكن ان يفرض عليها في نهاية الحرب أن تمتنع عن إطلاق الصواريخ، ولكن أي اتفاق لا توافق عليه لا يرى النور. أما في الوضع الحالي، فمن يفاوض وهو الرئيس ابو مازن لا يقدر أن يفرض على الأرض ما يتفق عليه. فلا بد من اتفاق مع حماس على أي اتفاق حتى تضمن تنفيذه. فحماس إذا لم تهزم هزيمة ساحقة فإنها تستطيع أن تفشل أي اتفاق يتم التوصل إليه بمعزل عنها. ويساعد حماس، صعود الدور الإيراني، والسوري والتركي الذي صعد إبان هذه الحرب، وأخذ ذلك شكل عدم تحميل رئيس وزراء تركيا حماس أية مسؤولية وإدانة اسرائيل مما يشير الى استعداد للعب دور تركي أكبر في المنطقة ويشمل المساهمة في المصالحة الفلسطينية ووقف العدوان، وفي ضمان تنفيذ أي اتفاق عبر إرسال مراقبين أو قوات تركية ضمن القوات الدولية. إن مَنْ يحارب هو مَنْ يقطف ثمارَ حربه إذا انتصر أو يدفع ثمن هزيمته. وما دام الفلسطينيون لم يخوضوا الحرب مجتمعين وموحدين، ولم يتوحدوا فيها. وإذا لم يتوحدوا بعدها، ستؤدي الحربُ الى تفاقم الانقسام الفلسطيني، ويمكن أن يتحول الى انفصال دائم. وهناك أسباب كثيرة لحدوث ذلك مثل استحقاق التاسع من يناير (كانون الثاني) الذي يمكن بسبب العدوان تأجيل تداعياته وليس إلغاءها، وهناك تصفية الحساب، وخصوصا مع الأصوات التي حملت حماس المسؤولية عن الحرب والدفع إليها؟!! إن خارطة سياسية جديدة ترسم في فلسطين والمنطقة، وهناك محاولات ضخمة لكي تكون لصالح اسرائيل والولايات المتحدة، وهناك محاولات أخرى كبيرة لكي تكون في صالح محور الممانعة الذي حقق انتصارات مهمة في العراق ولبنان، ويطمح لتحقيق انتصار بفلسطين. إن أحد مصادر قوة القضية الفلسطينية منذ اندلاع الثورة الفلسطينية المعاصرة بقيادة ياسر عرفات أنها ظلت بعيدة عن المحاور وسعت لتوظيفها لصالحها بحيث كانت القضية الفلسطينية توحد العرب ولا تفرقهم. وعلى كل الأطراف الفلسطينية بدون استثناء أن تستوعب ذلك، وتكف عن الانحياز لهذا المحور أو ذاك الاتهامات التي يطلقها كل فريق على الآخر ليست صحيحة، فالجميع ارتكبوا نفس الخطيئة وتمحوروا مع هذا المحور او ذاك، والانقسام الفلسطيني يجعلهم جميعاً ضعفاءَ وعرضة للتأثير أكثر بالمحاور الإقليمية والدولية، وعرضة للخضوع للأجندة الإسرائيلية، التي هي الأجندة الأخطر بكثير من كل الأجندات الأخرى. أليس كذلك!!

* كاتب ومحلل فلسطيني