أصرخوا ولا تُصرْوِخوا!

TT

تتسمر كالملايين أمام شاشة التلفزيون لساعات تتابع أخبار المجزرة. تستعرض العبارات، فتفيض العبرات، تغوص في المعنى، فيصبح الوصف بلا معنى، العلاقة بين العبارة والعبرة واضحة، سباق بينهما، يرتجف اللسان، فتسابقه العبرة، تسيل العبرة، فيتوقف اللسان.

غزو غزة! أي سريالية هذه التي جمعت بين الكلمتين، أو قل: غزوة غزة ـ مازالت العلاقة واضحة بينهما.

إطلاق حركة حماس الصواريخ على المناطق الجنوبية لإسرائيل هو الحجة التي ساقتها إسرائيل لهجمتها الدموية. تتمعن في المعنى فتجد أن كلمة صاروخ مشتقة من الصوت: صرخ! كانت صواريخ حماس صرخات مدوية ساقتها إسرائيل حجة لترتكب المجزرة. حماس تواصل «الصراخ بالصواريخ». أربعة آلاف صاروخ أطلقتها حماس منذ العام 2005. هكذا تقول الإحصائيات. الأرقام تتحدث عن أربعة آلاف قتيل وجريح منذ بدء الهجمة الإسرائيلية وحتى وقت كتابة هذه «التعابير». إنسان مقابل كل صرخة صاروخ!

صواريخ حماس لم تقتل كثيرا. يخجل الواحد من ذكر عدد من سقط من الإسرائيليين نتيجة صواريخ حماس! الخجل سببه هلع الفارق الرقمي حين المقارنة بعدد من سقط من أطفال ونساء وعُزل غزة مقارنة مع من مات من الإسرائيليين.

ورد في المنجد أن الصاروخ «سهم له ساق من قصب وفي أحد طرفيه أنبوبة صغيرة من المقوّى تحشى بارودا ولها فتيل من فتحتها السفلى فإذا أشعل الفتيل واحترق ما في مؤخرها من بارود تنطلق منها غازات تدفعها من الجهة المعاكسة». كان هذا تعريف الصاروخ في القديم من التاريخ!

تستعمل كلمة «صاروخ» في لهجة أهل الخليج بمعنى كذبة كبيرة! فيقال: فلان بدأ يرمي صواريخ ـ أي بدأ يكذب. سمعت فتاة تشتق منها فعلا وتقول لمستمعها: رجاء، لا تصَرْوخ ـ أي لا تكذب.

عبارة «مزايدة سياسية» تعتبر حديثة في استخدامها وليس في معناها. لم ترد في التراث إلا في سياق البيع والشراء، فيقال مزادة والجمع مزادٌ ومَزايد. الكتابات والحوارات التي تدور حول المجزرة في إعلامنا تعج بهذه العبارة.

لكن المزايدة السياسية في تاريخنا قديمة قدم معركة مؤتة. عاد جيش المسلمين منسحبا بعدما قتل قادته وبدت الهزيمة ماحقة إن استمرت المواجهة. فقام القائد التاريخي الفذ ـ خالد بن الوليد ـ بانسحاب مشرف حفظ ماء الوجه وحقن دماء البقية الباقية من الجيش. كان جيش الروم أضعافا مضاعفة لجيش المسلمين. عند عودة الجيش إلى المدينة استقبلهم «المزايدون السياسيون» صارخين: يا فُرار! يا فرار! فانتصر لهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، قائلا: «إنهم كُرار وليسوا بفرار». تتأمل: إذن المزايدة السياسية قديمة قدم حروبنا وغزواتنا وفتوحاتنا!

«وقف العدوان» شعار سائد هذه الأيام. لا أظن أن الكلمتين ارتبطتا في أية لغة بالتاريخ سوى في لغتنا السياسية والإعلامية هذه الأيام. في الماضي القريب، ساد «دحر العدوان». وقف العدوان يكرره الفرقاء جميعا ـ بمن فيهم المزايدون من كل فريق. لا أدري إن كان استخدام هذه العبارة انعكاسا لواقعية جديدة أم أنه لغة «استسلامية خانعة خائنة»؟

من لا يصرخ في وجه العدوان فهو خائن! خائن لإنسانيته وآدميته وأبجدياته الأخلاقية! لكن ماذا بعد الصراخ؟ الصراخ للبعض مهنة، وهو للبعض الآخر تعبير عن اليأس، ولفريق آخر هو صراخ خوفا من الاتهام بالخيانة ولسان حالهم يقول: ما دام الصراخ صك براءة من الانحياز للغزاة، وشهادة انتماء لقومك ودينك وإنسانيتك، فلنصرخ مع الصارخين!

كمٌ هائلٌ من الكلمات يتراكم في إعلامنا وفي منتدياتنا ومظاهراتنا كغثاء السيل. قليله ذو معنى، وبعضه يقصد به غير المعنى، وكثيره «بلا طعم وبلا معنى».

اصرخوا ولا تُصرْوخوا! فلنصدق ولو في الصراخ، إنها مرحلة «الصواريخ»!