.. ولكن ماذا عن الإنسان في غزة؟

TT

في بداية الهجوم الإسرائيلي على غزة، ظهر الأخ إسماعيل هنية على شاشات التلفزيون مصرحاً بأن المقاومة لن تستسلم، ولن تتراجع، حتى لو أبادت إسرائيل غزة ومن فيها، وابتسمت حينها بمرارة، وطافت في ذهني أبيات أحمد مطر: «ماذا نفيد إذا استقلت أرضنا، واحتُلت الأرواح والأبدان؟ ستعود إلى أوطاني أوطانها، إن عاد إنساناً بها الإنسان»، وأخذت أحدث نفسي: وما نفع المقاومة إذاً إذا أُبيد من يُقاوم لأجلهم، أي الإنسان الفلسطيني؟ ما فائدة الأرض إذا أبيد الإنسان؟ ما فائدة أي شيء وكل شيء، إذا كان الإنسان هو الثمن؟ أليست المقاومة هي من أجل الإنسان في فلسطين؟ من أجل حريته وعزته وكرامته وحقه في العيش الكريم؟ إن لم تكن مقاومة من أجل هذه الأهداف، فهي في النهاية لا تعدو أن تكون عبثاً أو ضرباً في خواء. الفلسطيني اليوم، الإنسان الفلسطيني البسيط، جائع وبلا كرامة أو حرية أو أي شيء يمكن أن يجعله إنساناً. نعم، البربرية الإسرائيلية، والهمجية الإسرائيلية، والوالغون في الدم من اولمرت إلى بوش الصغير، لهم دور كبير في «الهولكوست» الفلسطيني الذي نشهده في غزة اليوم، وشهدناه في أرجاء فلسطين منذ عام 1948، ولكن النقاط يجب أن توضع على الحروف، فلا يأخذنا مجرد الغضب والعاطفة بعيداً، فنجعل من همجية إسرائيل، ولا مبالاة واشنطن، شماعة نلقي عليها ملابسنا القديمة، ولا أريد أن أقول القذرة، وننجرف مع من أشعل الشرارة في مخزن وقود، وهو عالم بتبعات تلك الشرارة.

من بعد الأخ هنية، جاء الأخ خالد مشعل، الزعيم الفعلي لحركة حماس، وهو الآمن في دمشق، يبشرنا بعد أيام من الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة، ومئات من القتلى، ناهيك من الألوف من الجرحى، يبشرنا بأن المقاومة في غزة بخير، وأن الهجوم الإسرائيلي لم يؤثر على قدراتها إلا بأقل القليل، وكان يبتسم وهو يزف إلينا هذه البشرى من خلال شاشة التلفزيون. فلا بأس، والحالة هذه، أن تثكل الأمهات، ولا بأس أن تنتهي حياة شباب كانوا ينتظرون الحياة، ولا بأس أن يتيتم الأطفال، ولا بأس أن يموت الشيوخ رعباً وجوعاً، وتترمل النساء، وأن يُصبح في كل بيت فاجعة، طالما أن «المقاومة بخير». حقيقة لقد تألمت كثيراً وأنا أتابع «بشرى» الأخ خالد، ويا ليته بقي صامتاً، أو كما نقول في أمثالنا الشعبية «يا زينك ساكت»، فمقياس الربح والخسارة عند أبي مشعل، وفق ذلك التصريح، هو سلامة أفراد حماس فقط، وسلامة ما تملكه حماس من عتاد ومنشآت، وسلامة الأنفاق، وسلامة العلاقة مع إيران وسوريا، وشيء من شعبية السيد وحزب الله أيام تموز 2006، حتى وإن كانت الدماء الفلسطينية هي الثمن، كما كانت دماء اللبنانيين هي الثمن. أما الإنسان، أي الفلسطيني البسيط في هذه الحالة، فلا قيمة له، بل هو مجرد وقود لحرب لا ناقة له فيها ولا جمل في النهاية، ولم يصوت لها عندما صوت لحماس قبل سنين، بل كان يصوت لمحاربة الفساد لا لمحاربة إسرائيل، الأقوى عدة وعتاداً، التي لا تعرف الرحمة حين تشعر أن أمنها مهدد بهذا الشكل أو ذاك، وهذا ما لم يقله الأخ خالد صراحة، ولكنه كان واضحاً في المسكوت عنه في ذلك التصريح، وتلك الابتسامة الجميلة التي كانت ترتسم على وجهه وهو يعلن ثبات المقاومة، وكأن شيئاً لم يحدث.

صدمني هذا التصريح حقيقة من رجل حماس الأول لأن مقياسي للربح والخسارة في هذه الدنيا هو الإنسان، الإنسان أولاً والإنسان آخراً. موت طفل صغير، أو شيخ كبير، أو امرأة أو شاب يافع، هو أكبر خسارة من الممكن أن تحدث، فالحياة والروح هي أثمن ما استودعه الخالق جسد الإنسان، وهي التي يجب أن يُنافح عن حقها في الحياة، وحقها في الكرامة، وحقها في الحرية، وحقها في أن تقرر مصيرها بنفسها، لا أن يُقرر لها كل ذلك، سواء كان المُقرر هو حماس أو غيرها، وبمبررات دينية أو وطنية أو نضالية أو غيرها، يبقى الإنسان هو محور الأشياء، وليست الأشياء هي محور الإنسان، مهما كانت قيمتها. ألم يقل رسول الإسلام، صلى الله عليه وسلم، إنه: «لأن تُهدم الكعبة حجراً حجراً خير عند الله من أن يهدر دم مسلم»، فكيف بالمئات وربما الألوف؟ ألم يعقد نبي الهدى صلح الحديبية، وهو يعلم أنه على الهدى ومؤيد برب السماء، حفاظاً على أرواح من كان معه من المسلمين؟ ألم ينسحب ابن الوليد من مؤتة لعدم تكافؤ القوى مع الروم، حفاظاً على الروح الإنسانية التي ما أودعها الخالق في الجسد عبثاً؟ ألم يتنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان في عام الجماعة، وهو يعلم أنه على الحق، إلا حقناً للدماء؟ ألم يطلب الحسين في كربلاء أن يُترك للذهاب إلى الثغور، أو مقابلة يزيد، تجنباً لقتال غير متكافئ، تُستباح فيه دماء من كان معه من شيعته وأهل بيته، ولكن جند عبيد الله والي البصرة لم يتركوه؟ حماس منظمة إسلامية، فلم لا تتعظ بدروس تاريخ الإسلام؟ نحن نعيش هذه الأيام ذكرى مجزرة كربلاء، واستشهاد الحسين رضي الله عنه، بطل رفض الباطل، وحاول أن يقاومه، ولكنه بطل حقن الدماء أيضاً، فليت السيد وليت الأخ يستوعبون درس الحسين كاملاً، ومن قبله درس الحسن، وقبلهما علي، وقبل الجميع رسول الإسلام، صلى الله عليه وسلم، وليس استخدام الدين والوطنية والمقاومة تبريراً ايديولوجياً لما يظنون ويفعلون، على حساب دماء البسطاء من الناس، وعلى حساب تلك الروح التي أودعها الفاطر في جسد آدم الطيني في الأزل.

أنا أعلم أن هنالك من سيقول بعد قراءة هذا المقال إن الوقت ليس الوقت، وأن هذا الكلام قد يُستخدم تبريراً لممارسات إسرائيل ومباركة أميركا، وأنا أقول إن هذا ليس مجالاً للمزايدات، فإسرائيل متوحشة، وأميركا بوش فاقدة للحس الإنساني، ولكنها كلمة حق أعتقدها يجب أن تقال، بغض النظر عن الزمان والمكان والمشاعر. حماس هي من أشعل الشرارة على الرغم من إسلاميتها المعلنة، وحماس هي التي لا تأبه بالدم الفلسطيني عملياً، وهي تعلم علم اليقين أن الهمجية الإسرائيلية لن تترك حجراً في غزة إلا وقلبته، ولا إنساناً إلا وقتلته، فلم لا تستقيل حماس وتحقن الدماء؟ هل يعني ذلك الاستسلام؟ ليكن، ولكن ألا يستحق الإنسان الفلسطيني البسيط ذلك؟ هل يعني ذلك قبول الهزيمة؟ ليكن، فهل هناك أغلى من الإنسان. الإنسان الفلسطيني اليوم يواجه معضلة حياة لا مشكلة حياة، وهي كما يصفها كاتب عربي، «فالإنسان يتواجه مع مشاكله في الحياة عادة بما يملك من صبر وقابلية على المناورة، أما إذا صارت المشكلة هي الحياة نفسها، فما نفع الصبر والمناورات؟» (فؤاد التكرلي، المسرات والأوجاع، ص. 123). ومشكلة غزة اليوم هي الحياة ذاتها. سألتك بالله يا أخ مشعل، وسألتك بالله يا أخ هنية، أما آن الأوان لوقف المجزرة؟ بيدكم وقفها، والمقاومة لن تموت طالما كان هنالك حق وراءه مطالب، وطالما جرى رفض الاستعباد مجرى الدم في العروق، وهنا تكمن الروح الحقيقية للمقاومة. أما الدخول في مغامرات غير محسوبة، وأفعال غير مأمونة الجانب، وتحالفات سياسية لا تلبث أن تنهار مع الزمن، على حساب دم البسطاء، فذلك إلقاء للنفس إلى التهلكة، وقد قيل لنابليون: «لماذا لا يوجد سياسيون عظماء؟ فقال: الوصول إلى السلطة يتطلب الحقارة، وممارسة السلطة تتطلب العظمة، ولا تجتمع الحقارة والسلطة في ذات واحدة..»، فلا تكونوا مثالاً لما ذهب إليه نابليون. وفي هذا المجال، يؤثر عن المهاتما غاندي، هذا المقاوم العظيم للاستعمار البريطاني في بلاده، الذي نجح في النهاية من طرده من أرض الهند بعد سنين طويلة من الاستعباد، يؤثر عنه أنه جاءه مجموعة من الوطنيين الهنود الغاضبين، بعد مقتل عدد من الهنود على يد جنود الاحتلال، وطلبوا منه الأمر بالرد على أساس قاعدة العين بالعين، فقال لهم ما معناه أنه لو طبقت هذه القاعدة في العالم كله، لأصبح كل العالم أعمى. ثم أضاف ما معناه أنه إذا كنتم تريدون أن تحكموا على الأشخاص فأنا لا أريد، لأن الحكم على الأشخاص لله وحده، أما أنا فأريد أن أصلح الأشياء، ولذلك طرق ليس من بينها العين بالعين. وأنا واثق من أن المقاومة حق مشروع للمضطهدين والبائسين والمحرومين والمستعبدين، ولكن للمقاومة أشكالا كثيرة، وأوجها عديدة، ليس من الضروري أن يكون إلقاء النفس إلى التهلكة من بينها.

يقول سعدي الشيرازي: «شيئان يقودان الحكيم إلى الخطأ: البقاء صامتاً حين يكون الكلام مستوجباً، والتكلم حينما يلزمه الصمت». وكم تمنيت أن يكون الأخ مشعل والأخ هنية وغيرهما من قراء الشيرازي، فربما كانوا أكثر حكمة في تصريحاتهم وبشاراتهم، خاصة وغزة تئن من وجع همجية نُزعت من قلبها الرحمة، وقيادات لها حسابات لا علاقة للإنسان البسيط بها، وعالم يتفرج ويندد ولكنه لا يفعل شيئاً، وجماهير أسرتها الشعارات، وخدرتها الكلمات، وضللها مثقفوها، فما عادت تدري من السبب ومن المسبب، فيما الأحمر القاني يسيل أنهاراً في شوارع غزة.. فلله الأمر من قبل ومن بعد.. لله الأمر من قبل ومن بعد..