العراق: مخاطر انكشاف اقتصاده

TT

في حملة إيحائية لم يكن يعوزها الخبث أظهر بعض الإعلام الامريكي اثناء انهيار اسواق الاسهم العالمية ارتفاعا فريدا في الاسهم المتداولة في بورصة بغداد فكانت الاسهم خضراء في العراق وتحقق ارتفاعات في الوقت الذي فيه الوان جميع الاسهم في العالم حمراء، للإيحاء بان هذا البلد الذي ينفقون عليه الاموال بصيغة ضبط أمنه او عبر مساعدات، يتمتع بوضع اقتصادي فريد وانه يستفاد على حساب اموال دافع الضرائب الامريكي وعلى حساب الركود الاقتصادي، لكن ما لم تشر له هذه الاخبار او تسلط عليه ضوءها هو حجم تداولية الاسهم في العراق وقيمتها، فسوق بغداد معدل تداوله اليومي لا يتجاوز 800 الف دولار وما زالت تستخدم فيه اللوحة اليدوية للتسجيل ولم يصل بعد لاستخدام التداول الالكتروني، فضلاً عن عزلة السوق عن العالم إذ ان حجم المستثمرين الاجانب فيه لا يتجاوز 3%، ولا توجد له لا استثمارات في الخارج ولا محافظ استثمارية، وبالتالي فإن عدم تأثره جاء من محدوديته وبدائيته وعزلته .

إذن هل ان الاقتصاد العراقي بمنأى عن تأثير الازمة الاقتصادية العالمية، الجواب المنطقي سيكون لا، بل هو في عينها وانها اصابت قلبه، اي مداخيله من النفط، اذ ان الركود العالمي الذي استتبع الازمة المالية انعكس وسينعكس بانخفاض الطلب على النفط وتدهور أسعاره، والذي سيصيب الاقتصاد العراقي بآثاره السلبية، كونه اقتصادا ريعيا وأحادي الجانب يعتمد في 95% من مداخيله على العوائد النفطية، فميزانية العام المنتهي التي بنيت على سعر برميل نفط 87 دولارا لم تستطع أن توفر للجانب الاستثماري إلا 18 مليارا، في حين ان الحصة الاكبر منها اخذتها الميزانية التشغيلية، هذه الميزانية ستنخفض في هذا العام الى حوالي النصف، اذ انها قبل ان تدفع الى البرلمان بنيت على توقعات سعر برميل نفط 62 دولارا ثم سحبت وبنيت ثانياً على سعر 50 دولارا، وهي تقديرات متفائلة تتطلع الى الارتفاع في اسعار النفط، إذ ان سعره الحالي ما زال يراوح في حدود الاربعين دولارا، والمعروف ان سعر النفط العراقي هو اقل بـ 13 دولارا عن سعر خام غرب تكساس، لذا فان الميزانية للعام القادم، وان تحقق سعر نفط عالمي اكثر من خمسين دولارا وبافتراض ان معدل تصدير العراق مليونا برميل يومياً، لن تتعدى 30 مليار دولار ما لم يلجأ للاحتياطي، وهي بالكاد تكفي رواتب وبطاقة تموينية ومخصصات رعاية اجتماعية، ولن يظل بعدها شيء للاستثمار، آخذين بالاعتبار ان العراق هو اصلا في حالة ركود وان الديناميكية الوحيدة فيه كانت هي ارتفاع اسعار النفط، والان في ظل انخفاضه ومحدودية قدرات العراق في زيادة انتاجه مع توقعات انخفاض الطلب، فلم يبق إذن إلا الدعاء يومياً ان ترتفع اسعار النفط .

يجدر بالذكر أن باقي مفاصل العملية الاقتصادية في العراق متوقفة، كما يبدو ان لا افق لقدوم استثمارات اجنبية، في ظل الازمة العالمية والافتقار الى بنية تحتية او ادارية او بنكية مشجعة وقبلها قلق الوضع الامني، بل بالعكس فان الظروف الطارئة طالت رؤوس الاموال العراقية التي هاجرت خلال عنف السنين الماضية، ما جعل الدولة هي المشغل وهي رب العمل الوحيد، فهي التي توزع المداخيل بصيغة رواتب على جهاز اداري متضخم وعلى بطالة مقنعة، ولم تترك بجانبها اي قطاع خاص يعتد به او نشاط آخر موازٍ بل حتى النشاطات التي اشتهر بها العراق كالزراعة انتهت في ظل غياب الدعم الحقيقي وغياب سياسة حمائية ناجحة واستصلاح للاراضي او تطوير لقدرة ونظم الري، بل ان المفارقة ان تنفق الحكومة 5 مليارات دولار سنوياً على بطاقة تموينية كان ممكنا ان تضخ الى الزراعة وتجعل العراق مصدِّراً بدل ان يكون مستورداً، ولكن عدم الجرأة في اتخاذ هكذا سياسات ومنافقة الشارع ضيّع ويضيّع هذه الفرص، واكب ذلك فساد استشرى وتجذر واستحكم في كثير من المفاصل، مع عشوائية في التخطيط، وصراعات ما بين المركز والادارات المحلية والتي هي الاخرى فشلت في الأداء وضربها الفساد واضعفتها قلة الخبرة، لذلك لم تظهر اي مؤشرات تنموية واضحة او مشاريع اقتصادية هامة او مشاريع خدمية كبرى، فضيعت اموال طفرة الاسعار التي لم يكن لنا من فضل فيها، حيث كنا ننام وهي ترتفع، وهذا ما شجع الطبقة السياسية على الاستمرار في مناكفاتها وعلى إيغالها في الاعاقة، فلم تجد نفسها ملزمة بتقديم اي برامج اقتصادية او تنموية او حتى ان تنشط الجانب الرقيب والمحاسب او ان تكترث في ان تطرح سياسات اقتصادية بديلة.

في حين ان الحكومة من جانبها ركزت على الوضع الامني وأهملت ما عداه، ما اتاح لاستمرار وزراء الفشل، الذين يتهم رئيس الحكومة بعدم الميل لتغييرهم، لكنه ايضاً اذا ما جرب استبدال احدهم فانه سيدخل بصفقات ومساومات لها أول ولا آخر. أما البرلمان فبجانب تضييع جل وقته بالمهاترات والثانويات فان الكتل البرلمانية فيه عادة ما تحمي وزراءها وهو ما شل الجانب الرقابي له. من جانب آخر فاني رصدت تشريعات البرلمان وقوانينه ومقترحاته فلم اجد تشريعا واحدا منها خصص لجباية وجلب الاموال بل كلها للإنفاق وهذا يظهر العشوائية والميل المفرط لمنافقة الناخب .

أما الان فلم يعد هناك متسع لكل ذاك، وحان للعبث ان ينتهي إذ سينكشف العراق اقتصادياً وسيرتد ذلك على ما سواه بما في ذلك الامن الذي انفقت الاموال جلها عليه، لذا فبات المطلوب في قادمات الايام قليل من السياسة وكثير من الاقتصاد.