الفرصة مواتية من أجل نظام عالمي جديد

TT

بينما تستعد الإدارة الأميركية الجديدة لتولي مهامها وسط أزمات مالية وعالمية خطيرة، ربما يكون من غير المنطقي القول إن هذه الطبيعة غير المستقرة في النظام العالمي توفر فرصة فريدة من أجل المساعي الدبلوماسية الخلاقة.

وتحتوي تلك الفرصة على تناقض ظاهري. من جانب، يمثل الانهيار المالي ضربة كبرى لمكانة الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الأحكام الأميركية السياسية أحيانا ما تكون مثيرة للجدل، كانت الوصفة الأميركية من أجل النظام المالي العالمي مقبولة على نطاق واسع. وفي الفترة الراهنة تنتشر خيبة الأمل في ما يتعلق بكيفية إدارة الولايات المتحدة لهذا النظام.

وفي الوقت نفسه، جعل حجم الانهيار المفاجئ من المستحيل على بقية العالم أن يحتمي خلف الهيمنة الأميركية أو الفشل الأميركي. وسيكون على كل دولة أن تعيد تقييم إسهامها الخاص في الأزمة السائدة. وستسعى كل دولة إلى أن تكون مستقلة بذاتها، إلى أقصى درجة ممكنة، عن الظروف التي تسببت في الانهيار. وفي الوقت ذاته، يلزم على كل دولة أن تواجه الحقيقة بأن أزماتها لا يمكن السيطرة عليها إلا بجهد مشترك. وستواجه حتى أغنى الدول انكماشا في مواردها. وسيكون على كل منها أن تعيد وضع أولوياتها القومية. وسينشأ نظام عالمي إذا ظهرت للوجود مجموعة من الأولويات المتناغمة. وسينهار هذا النظام على نحو كارثي إذا لم تتقارب الأولويات المتعددة.

يتزامن الانهيار إلى أدنى درجة في النظام المالي العالمي الحالي مع أزمات سياسية في جميع أنحاء الكرة الأرضية. ولم يحدث من قبل أن وقعت كل تلك التحولات في وقت واحد في أماكن عديدة مختلفة في العالم، ومن الممكن الاطلاع على تلك التحولات الدولية عبر وسائل الاتصال الفورية. ويعد البديل لإقامة نظام عالمي جديد هو الفوضى.

وفي الحقيقة، ترتبط الأزمات المالية والسياسية ارتباطا وثيقا، ويعود السبب في ذلك إلى أنه في فترة الوفرة الاقتصادية، اتسعت الفجوة بين المؤسسات الاقتصادية والسياسية في العالم. لقد تحول العالم الاقتصادي إلى العولمة. وأصبح لمؤسساته انتشار عالمي تعمل فيه وفقا لقواعد أساسية تفترض أن السوق العالمية تخضع للتنظيم الذاتي.

وقد فضح الانهيار الاقتصادي هذا الوهم. وقد أثبت ذلك غياب المؤسسات العالمية عن تخفيف الصدمة وتحويل اتجاه الأزمة. وبالتأكيد، عندما تلجأ الشعوب المتأزمة إلى مؤسساتها السياسية الوطنية، فإن المحرك الأساسي لهذه المؤسسات يتمثل في السياسات الداخلية وليس اعتبارات النظام العالمي. وتحاول كل دولة كبرى حل مشاكلها الملحة بمفردها وإرجاء العمل المشترك إلى مرحلة لاحقة أقل تأزما. ويظهر ما يسمى بخطط الإنقاذ على أساس وطني تدريجي، عن طريق إحلال الائتمان الحكومي غير المحدود محل الائتمان الخاص الذي تسبب في الكارثة أولا، حتى الآن بدون أن يحقق أي شيء أكثر من التسبب في ذعر أولي. ولن يقوم نظام عالمي، سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي حتى تنشأ قواعد عامة يمكن وفقها أن تحدد الدول وجهتها.

وفي النهاية، يمكن أن يتم التنسيق بين النظامين السياسي والاقتصادي بطريقة واحدة من اثنتين: بإقامة هيئة تنظيمية سياسية دولية لها انتشار العالم الاقتصادي؛ أو بتقليص الوحدات الاقتصادية إلى حجم يمكن إدارته عبر الهيئات السياسية القائمة، التي من المحتمل أن تقود إلى مذهب تجاري جديد، ربما يتعلق بالوحدات الإقليمية. وتعد اتفاقية عالمية جديدة من طراز بريتون وودز أفضل نتيجة حتى الآن.

وسيكون الدور الأميركي في هذا المشروع حاسما. ومن المفارقات أن السيطرة الأميركية ستكون كبيرة في ما يتناسب مع اعتدال سلوكنا. ونحن نحتاج إلى تعديل الاستقامة التي تميز الكثير من المواقف الأميركية، وخاصة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. هذا الحدث المؤثر والفترة التالية من النمو العالمي المطرد حث الكثيرون على المساواة بين النظام العالمي وقبول الخطط الأميركية، ومنها اختياراتنا الداخلية. وكانت النتيجة توجهات أحادية الجانب متأصلة، وهي الشكوى الدائمة من المنتقدين الأوروبيين، أو نوع ملح من الاستشارات التي تدعو الدول لإثبات كفاءتها من أجل الانضمام إلى النظام العالمي عبر الالتزام بالوصفات الأميركية.

ولم يحدث منذ أن تولى الرئيس جون كينيدي الحكم منذ نصف قرن أن جاءت إدارة جديدة ومعها مثل هذه الذخيرة من التوقعات. ومن غير المسبوق أن جميع اللاعبين الأساسيين في الساحة العالمية يقرون برغبتهم في مباشرة التحويلات التي فرضتها عليهم الأزمة العالمية بالتعاون مع الولايات المتحدة.

ويعد التأثير الاستثنائي للرئيس المنتخب على خيال البشرية عنصرا مهما في تشكيل النظام العالمي الجديد. ولكنه يعبر عن فرصة، وليس سياسة. وتكمن قمة التحدي في صياغة القلق المشترك بين معظم الدول وجميع الدول الكبرى حيال الأزمة الاقتصادية، مع الخوف المشترك من إرهاب المجاهدين، إلى استراتيجية مشتركة يعزز منها الإدراك بأن القضايا الجديدة، مثل انتشار الأسلحة النووية والطاقة والتغيير المناخي لا تسمح بفرصة لحل قومي أو إقليمي.

ولا يمكن أن ترتكب الإدارة الجديدة خطأ أفدح من الاعتماد على شعبيتها الأولية. وتحتاج الصبغة التعاونية في اللحظة الراهنة إلى المرور عبر استراتيجية كبرى لتجاوز خلافات الماضي القريب. وتجد التهمة المتعلقة بأحادية الجانب الأميركي أساسا من الصحة، وقد أصبحت أيضا عذرا لاختلاف أوروبي مهم مع أميركا: حيث ما زالت الولايات المتحدة تتعامل كدولة قومية يمكنها أن تطلب من شعبها تضحيات من أجل المستقبل، بينما تجد أوروبا، المعلقة ما بين التخلي عن إطارها القومي والبديل السياسي الذي لم تصل إليه بعد، من الأصعب أن ترجئ المنافع الحالية. وبهذا، تركز على القوة الناعمة. وقد كانت معظم الخلافات الأطلسية جوهرية ولها هامش إجرائي فقط. وكان من الممكن أن يحدث صراع بغض النظر عن كثافة المشاورات. وسيزيد اعتماد شراكة الأطلسي على سياسات مشتركة أكثر من الإجراءات المتفق عليها.

ويعد دور الصين في النظام العالمي الجديد مهم على نحو متساو. ولقد تطورت العلاقات التي بدأت على الجانبين كمخطط إستراتيجي لتقييد العداء المشترك إلى أحد أعمدة النظام العالمي. وقد جعلت الصين الإنفاق الاستهلاكي الأميركي ممكنا بشراء الديون الأميركية؛ وساعدت أميركا على تحديث الاقتصاد الصيني وإصلاحه بفتح أسواقها أمام السلع الصينية.

لقد بالغ الطرفان في تقدير قدرة هذا النظام على التحمل. ولكن في فترة استمراره حقق معدل نمو غير مسبوق. وقد خفف هذا النظام أيضا من المخاوف المتعلقة بدور الصين، بمجرد أن ظهرت الصين بكامل قوتها كقوة عظمى صديقة. وقد توصل الإجماع إلى أن علاقات العداء بين أعمدة النظام العالمي تهدم الكثير مما تحقق ولا تحقق فائدة لأحد. وينبغي الحفاظ على هذا الاعتقاد وتقويته.

يحتاج كل من جانبي المحيط الهادي إلى تعاون الآخر في مواجهة تبعات الأزمة المالية. وفي الوقت الحالي، بعد أن دمر الانهيار المالي العالمي أسواق التصدير الصينية، تؤكد الصين على أهمية تطوير البنية التحتية والاستهلاك الداخلي. ولن يكون من السهل التغيير سريعا، وربما يهبط معدل النمو الصيني مؤقتا إلى أقل من 7.5 في المائة والذي يُعرفه الخبراء الصينيون دائما بالخط الذي يهدد الاستقرار السياسي. وتحتاج أميركا إلى التعاون الصيني من أجل التصدي لعجز ميزان الحساب الجاري ولمنع عجز ميزانيتها المتفجر من التسبب في تضخم مدمر.

وسيعتمد نوع النظام الاقتصادي العالمي الناشئ إلى حد كبير على كيفية تعامل الصين وأميركا مع بعضهما البعض على مدار الأعوام القليلة المقبلة. وربما تلقي الصين المحبطة نظرة على هيكل آسيوي إقليمي مقصور، والذي بدأت نواته في الظهور في فكرة منتدى «آسيان+3». وفي الوقت ذاته، إذا تطورت النزعة الحمائية في أميركا أو إذا اعتُبرت الصين خصما على المدى الطويل، فسوف تحل نبوءة محققة باحتمالات قيام نظام عالمي. وستقسم تلك العودة إلى المذهب التجاري ودبلوماسية القرن التاسع عشر العالم إلى وحدات إقليمية متنافسة مع تبعات خطيرة طويلة المدى.

وتحتاج العلاقات الصينية الأميركية إلى الانتقال إلى مستوى جديد. ويمكن تجاوز الأزمة الحالية فقط بتنمية الشعور بوجود هدف مشترك. وتتطلب قضايا مثل انتشار الأسلحة النووية والطاقة والبيئة تقوية العلاقات السياسية بين الصين والولايات المتحدة. ويحظى هذا الجيل من الزعماء بالفرصة لصياغة العلاقات عبر المحيط الهادي من أجل مصير مشترك، كما حدث مع العلاقات عبر المحيط الأطلسي في فترة ما بعد الحرب مباشرة، في ما عدا أن التحديات الآن سياسية واقتصادية أكثر منها عسكرية.

ويجب أن تضم هذه الرؤية دولا مثل اليابان وكوريا والهند وباكستان واندونيسيا واستراليا ونيوزيلندا، إما جزءا من هيئات عبر المحيط الهادي أو في تنظيمات إقليمية، تتعامل مع قضايا خاصة مثل الطاقة وانتشار السلاح النووي والبيئة.

ويتطلب تعقيد العالم الناشئ من أميركا اتخاذ أسلوب تاريخي بدلا من الإصرار على أن كل مشكلة لها حل نهائي يمكن التعبير عنه في برامج لها حدود زمنية معينة غالبا ما تصب في صالح عمليتنا السياسية. ويجب أن نتعلم العمل في ما يمكن تحقيقه، وأن نكون مستعدين للسعي إلى تحقيق أهداف قصوى عبر تراكمات طفيفة. ويمكن أن يكون النظام العالمي دائما فقط إذا لم يكتف المشتركون فيه بالمشاركة في البناء، ولكن أيضا في الحفاظ عليه. وبهذه الطريقة، تنعم أميركا وشركاؤها المحتملون بفرصة فريدة لتحويل لحظة الأزمة إلى رؤية للأمل.

* مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون ووزير الخارجية في عهدي الرئيسين نيكسون وجيرالد فورد

*خدمة غلوبال فيوبوينت

خاص بـ«الشرق الأوسط»