الظاهر والباطن

TT

يمتد عملي في الإعلام منذ عام 1978 إلى يومنا هذا. ومن حسن الطالع أنه على مدى الأعوام الثلاثين لم أصطدم يوما برئيس يقول اكتب هذا، أو لا تكتب ذاك.. أي أن الضمير الفردي كان هو المحرك يوما بعد يوم، وعاما بعد عام. الاستثناء الوحيد حدث في أواخر عام 1990، حين كلفت بالإشراف على صحيفة مسائية صدرت لمتابعة الأحداث بعد غزو الكويت. أتذكر حديثا بيني وبين المسؤول المباشر حين قال «تجنبوا أسلوب الشتائم، لأنه لا يجوز». وبما أن كلامه توافق تماما مع إحساسي بأن الشتائم أسلوب رخيص لا يتلاءم مع كرامة المهنة التي نمارسها؛ قبلت الملاحظة بدون تعليق، واعتمدتها كمنهج عام.

في الأيام الأخيرة، منذ بدء الهجوم الشرس على غزة وسكانها المحاصرينن الذين صارعوا البرد والظلام وقلة الطعام، شهدت الكثير من الشتائم على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون والمنابر الأخرى.. فلا الشتائم خففت مصاب المصابين، ولا هي ردعت ظلم المعتدين، ولا بدلت ضمائر المعنيين بها. البريد الالكتروني حمل الكثير من الصور المروعة عن القتل والدمار الذي خلفته آلة الحرب، وحمل أيضا مقالات لكتاب ومؤرخين وسياسيين غربيين، يعتبرون أن إسرائيل فقدت اتزانها، إيذانا بتحول سوف تتغير بعده موازين القوة. فالقوة ليست دبابات حديثة، ولا قاذفات قنابل تغني وترقص بعد إصابة الهدف، وليست فرق مشاة مبرمجة على القتل العشوائي، ولكن القوة هي الصمود ومقاومة الظلم، مهما اشتدت قسوته. حين يستبد الخوف بسجين من أن تضيع منه معالم الزمن، يحفر بأظافره علي جدار سجنه خطًّا كل يوم، لكي يكون مرجعا لعدد الأيام والشهور. مثله يستعد ليوم تفتح فيه الأبواب المغلقة، لأنه لو لم ينتظر؛ لمات همًّا وكمدًا. كتبت لي أم من غزة تقول إنها «تحتفظ في خزانة بأربع علب من السردين، علبة لكل طفل، للطوارئ»، حتى لو أنها عجزت يوما عن تأمين الغذاء، واشتد القصف والخوف والظلام، تدرك أن بوليصة التأمين متمثلة في العلب الأربع تظل في مكمنها، لأنها قد تعيد ما يشبه الأمان لأطفالها لبضع ساعات. هي أيضا تتمسك بإرادة الحياة، لأنها لو لم تفعل؛ لرقدت هي وأطفالها انتظارا لقنبلة إسرائيلية تطفئ شعلة الحياة. بريدي يحمل رسائل من شباب يطالب بمقاطعة منتجات الشركات التي تدعم إسرائيل. ورسائل أخرى تطلب الاشتراك في استفتاء أعدته الـ «سي إن إن» لتسأل «هل أنت مع فلسطين، أَمْ مع إسرائيل»؟. والحق أقول إنني طبعت أسماء الشركات الداعمة لإسرائيل بنية مقاطعة منتجاتها، وبقناعة تامة بأن المقاطعة لن تؤثر علي مسار حياتي اليومية بقليل أو كثير. كما أنني شاركت في استفتاء الـ «سي إن إن»، وسرني أن المشتركين يدعمون فلسطين بنسبة 65 في المائة. هؤلاء أفراد دفعهم الضمير إلى اتخاذ موقف. بالأمس، في نشرة أخبار وقت الذروة، بدأت أخبار تلفزيون الـ «بي بي سي» بصورة أهالي غزة يصلون على ضحايا المدرسة، وللمرة الأولى صورت كاميرا الإنجليز جموع المصلين وأمامهم جثامين الأطفال الشهداء، من الأمام، لا من الخلف. في الماضي كانت الكاميرا تصور مؤخرات المصلين في لحظة السجود. كل تغيير نافع يبدأ في العقل. ازرع الفكرة؛ يولد المنهج. ومن المنهج تجني الأفعال. اكتشف دورك وفقا لقدراتك، وحدد هدفك ومسارك، على أن يتوافق الظاهر مع الباطن. وتذكر أن الانفعالية ليست دليلا على المسؤولية.