لا حصان أبيض ولا دراجة

TT

رافقت، مع السنين، غياب حرف كثيرة في القرية، كانت، على بساطتها، تعيل أصحابها وذويهم. فقد اختفت مهنة السلال، الذي كان يصنع السلال من قضبان الريحان، ويجيد أيضاً تقشيش الكراسي، وفي المواسم يصنع الصابون من زيت الزيتون، وفي أوقات الإلهام يكتب الشعر الزجلي. وكان نجار القرية هو أيضاً حلاقها وهو صاحب الدكان الرئيسية وهو وكيل السماد الكيماوي من التشيلي.

وغاب الحرفيون وغابت معهم حرفتهم. لكنني علمت أخيراً، بأسى حقيقي، أن المدينة طردت ساعي البريد، الذي كان جزءا جميلا من ذكريات الطفولة. فقد كان الساعي أو «البوسطجي» ـ يحمل البريد إلى جميع القرى المجاورة. وتعود ذاكرتي إلى يوم كان يأتينا في الصيف على حصان أبيض، وهو يرتدي بزة حكومية كاكية اللون، مجردة من الشرائط والأوسمة التي يحملها رجال الدرك الذين كانوا يأتون أيضاً على ظهور الخيل. لكن إطلالة الدورية كانت تحمل الينا الخوف. فرجالها لا يأتون إلا لكتابة محاضر الضبط. وكانوا يجدون صعوبة في العثور على مخالفة في مكان الودعاء والبسطاء، إلا أنهم لم يكونوا يغادرون في نهاية الأمر خالي الوفاض.

هو، ساعي البريد، كان ينتظره الذين ينتظرون شيئاً والذين لا ينتظرون شيئاً. فلم يفقد البعض الأمل في أن تأتيهم فجأة رسالة من مغترب في المهجر ضاعت آثاره. أو من قريب لا يعرفهم ولا يعرفونه. فقد كان ساعي البريد صلة الوصل مع النسيان. وكان أحيانا يحمل مجلات مجانية فيها صور لذيذة. وكان في القرية مشتركان في الصحف، يحملها الساعي مرتين في الأسبوع، فيتداولها الجميع.

وذات صيف أطل البوسطجي على ظهر دراجة نارية لها صوت رنان وضجة مثيرة. وكان الشيب قد ازداد فيه. وأصبح يخلع قبعته الرسمية غير آبه أن يفقد شيئاً من هيبته الحكومية. فقد كان يتعرق باستمرار وصار الهواء يلفح عرقه بسبب سرعة الدراجة. أي حوالي 40 كيلومترا في الساعة على الأقل. مما يكفي لإكمال جولته في نصف نهار، موزعاً تحويلات المهجر ورسائل الحب والصحف المتأخرة الصدور والوصول في زمن لم يكن فيه الخبر سوى حكاية أخرى من حكايات الساحة أو مسامرات السهرة التي تنتهي على حلقة رفع فيها عنتر سيفه والبقية غدا وعمر السامعين يطول.