فتح المفتوح!

TT

السيد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة ««حماس»»، في خطابه المتلفز مساء السبت من دمشق، طالب بإعادة النظر في اتفاقية المعابر التي تفاوض عليها الطرف الفلسطيني في نوفمبر 2005. وقال ان الوقت قد حان لتعديلها، وطالب بشراكة بين ««حماس»» والسلطة الفلسطينية في إدارة معبر رفح، منفذ القطاع على مصر والعالم الخارجي. المفارقة المضحكة المبكية أن الأمر كان كذلك بالفعل قبل أن تستولي ««حماس»» على غزة، وكانت وقتها ««حماس»» هي الحكومة، أي كان من الممكن لها أن تدير المعبر إذا أرادت أو لنقل لو أنها أحسنت التصرف. ولم تكن مضطرة إلى كل هذه التضحيات القاسية من أجل معبر كان مفتوحا بالأصل.. «من فين إذنك يا جحا؟».

قتل (إلى وقت كتابة هذا المقال) أكثر من ثمانمئة فلسطيني وجرح المئات، والأرقام مرشحة بقوة إلى الازدياد المؤلم، وخالد مشعل ما زال يؤكد على رفض قرار مجلس الأمن ورفض المبادرة المصرية واستمرار الجهاد والغمز واللمز من الحكومات العربية، ومن أجل ماذا؟ الجهاد من أجل كسر الحصار على غزة، بفتح معبر كان مفتوحا بالأصل يوم تسلمت ««حماس»» الأمر، بعد انتخابها حكومة شرعية للشعب الفلسطيني. كل جهاد ««حماس»» اليوم وكل هذه التضحيات من أجل فتح ما كان مفتوحا أصلا، وإخراج الإسرائيليين من أرض كانوا خارجها.

في مقالين سابقين قمت بدوري بنقد الاحتلال ورجاله وقرعت إسرائيل وقادتها وبدون مواربة، وأعود لأقول إن الضمير الإنساني يدمى من المآسي البشعة التي يعانيها أهل غزة.. ولكن لا بد من مواجهة مع النفس والصراحة مع ««حماس»» وقادتها. منذ العام 2005 وإسرائيل خارج غزة، كان من الممكن ل«حماس» كحكومة لا كحركة، أن تنقل غزة من حالة البؤس إلى شيء أقرب إلى الآدمية والحياة الإنسانية، أن تلتفت إلى بناء المشافي والمدارس ومراكز الخدمات وتطوير البنى التحتية وتوفير فرص العمل، لم يكن الحصار قائما وقتها، كانت غزة شبه محررة عندما تسلمت «حماس» الحكومة. فما الذي قدمته «حماس» لأهل غزة؟

في مقال سابق في هذه الصحيفة، كتبت عن غزة بين نموذج سنغافورة وتورا بورا. قلت فيه يومها ان غزة ميناء بحري بمساحة صغيرة، مثله مثل سنغافورة أو البحرين. ولكن سنغافورة، رغم صغرها، تحولت بفضل حكومة ذكية أحسنت إدارتها من ميناء صغير إلى واحدة من أهم الدول في آسيا. النموذج الذي كان من الممكن أن يطمح الفلسطينيون إليه في غزة، هو نموذج سنغافورة، فتكون غزة ميناء ناجحا ذا اقتصاد قوي، وقادرة على توفير حياة مقبولة لأبناء القطاع. ولكن بدلا من أن تذهب ««حماس»» بغزة إلى نموذج سنغافورة، ذهبت بها إلى نموذج تورا بورا! وفشل القيادة الفلسطينية في غزة سببه الأساسي أنها ما زالت تعيش «مراهقة» الثورة ولا تتصرف كمشروع دولة قادرة على إدارة شؤون شعبها.

السؤال اليوم هو: ما الذي قدمته ««حماس»» للبشر الذين انتخبوها حكومة؟ بدلا من الأخذ بيدهم إلى عيش أفضل، دخلت في صراع مع السلطة الوطنية الفلسطينية وقامت بانقلاب عسكري عليها في غزة، هذا الانقلاب إضافة إلى شقه الصف الفلسطيني وإضعافه، فقد أفقد ««حماس»» شرعية الانتخابات. الانقلاب حول «حماس» من حالة ديموقراطية منتخبة، إلى حالة انقلابية شرق أوسطية، ومعها فقدت «حماس» العلاقة بالعالم الخارجي عندما ترك المراقبون الأوروبيون المعبر، وانتهت اتفاقية المعابر إلى يومنا هذا. ذهنية الانقلابات أقلقت المجتمع الدولي وإسرائيل بالطبع وكذلك مصر الدولة ذات الحدود المهمة مع القطاع، هذا القلق أدى بالتالي إلى حصار قطاع غزة. ولكسر هذا الحصار كانت «حماس» تضغط على إسرائيل بصواريخ هنا وهناك أضرت أكثر مما نفعت.. إذن قامت «حماس» بجهاد أتى بالإسرائيليين إلى غزة مرة ثانية، وها نحن اليوم أمام إصرار «حماس» على جهاد مكلف آخر من إجل إجبارهم على فك الحصار. جهاد من أجل فتح ما كان مفتوحا أصلا وتحرير ما كان محررا أصلا، بإراقة مزيد من دماء الأطفال والنساء والأبرياء والتسبب في مزيد من الإعاقات والعجز الجسدي والتدمير الكامل لمدينة برمتها. لا أحد هنا يعفي إسرائيل من جريمتها، ولكن عندما تكون هناك قيادة لمدينة ما، كما هو حال «حماس» في غزة، فيجب أن تفكر هذه القيادة جيدا وجيدا وتتحسب كثيرا وكثيرا قبل أن تزج بمليون ونصف المليون من البشر في مواجهة عدو يمتلك أكبر قوة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط. قوة لا يملك أبناء غزة أن يواجهوها إلا بصدورهم العارية وأقدامهم الحافية وجوعهم وقلة مشافيهم وخدماتهم الصحية، ويواجهوها بكلمات التشجيع والحض على الجهاد والمصابرة من خالد مشعل المقيم خارج هذا الحريق كله.

خالد مشعل طالب أيضا في خطابه المتلفز مساء السبت، بقمة عربية لمساندة المقاومة، في الوقت الذي رفض فيه قرار مجلس الأمن. أي أن مشعل قد رفض القرار الدولي وطالب بعقد قمة عربية للتوصل إلى قرار إقليمي.. وهذا ضياع كامل في الرؤية لدى رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس». إذ أن الرشد هو ما قام به وزراء الخارجية العرب عندما استصدروا قرارا من مجلس الأمن لوقف العدوان، ذلك لأن أي قرار يتمخض عن القمة العربية هو قرار يجب البناء عليه لتصعيد الموقف والذهاب إلى مجلس الأمن للتوصل إلى قرار دولي. الدول تذهب من الإقليمي إلى الدولي، أي من نقطة أدنى إلى نقطة أعلى للتوصل إلى موقف وقرار أكثر تأثيرا في خدمة قضاياها. أما خالد مشعل فهو يرفض الدولي الأعلى ويطالب بالإقليمي الأدنى. ترى أي رؤية تلك التي تسيطر على تفكير قادة «حماس»؟

خالد مشعل رفض أيضا المبادرة المصرية، رغم أنها وكما يقول الإنجليز هي اللعبة الوحيدة الموجودة اليوم (the only game in town (. فالمبادرة المصرية القائلة بفتح المعابر وقفل الأنفاق والتصالح مع السلطة الفلسطينية، هي في الحقيقة الآلية الوحيدة لتنفيذ قرار مجلس الأمن على الأرض. وعلى «حماس» أن تعرف جيدا أن القضية الفلسطينية في ضمير مصر، حكومة وشعبا، مركزية. فالمصريون هم الوحيدون القادرون فعليا على نصرة غزة ونصرة «حماس»، كما أنهم هم الوحيدون القادرون فعليا أيضا على القضاء على «حماس» إن شاءوا، فتطويق «حماس» الكامل لا يتم من إسرائيل، بل يتم من مصر من الأرض والبحر والجو، لكن المصريين لم يفعلوا ذلك رغم كل التهم القاسية التي ألقى بها بعض رجالات «حماس» في وجه القاهرة. «حماس» وإسرائيل معا يستهدفان مصر ما بعد مبارك، فمن يقول بأن مصر تواطأت مع إسرائيل في الاعتداء على غزة، أقول لهم إن «حماس» وإسرائيل تآمرتا معا ضد مصر من أجل تحجيم دورها، ولهذا مقال طويل عريض أعدكم بتفاصيله.

ليست الشجاعة يا أخ مشعل في الإصرار على رفض القرار الدولي وعرقلة المبادرة المصرية، وهي المبادرة الوحيدة التي قد تؤدي إلى أمل، وبعد ذلك مطالبة الأبرياء بالصمود في حرب لم يقرروها ولم يعدوا لها ولم تستعدوا أنتم كقيادة لها. الشجاعة في أن تعرف «حماس» حدود قدراتها ومسؤولياتها. إسرائيل شنت حملتها على غزة، لأنها مسؤولة عن حماية شعبها من الصواريخ القادمة من غزة، حسب كلام قادتها. ولكن ماذا سيقول قادة «حماس» ذات يوم لأهالي الموتى والجرحي والمعاقين من سكان غزة، هل سيقولون لهم ان إسرائيل هي المسؤولة الوحيدة عن كل هذا الدمار والموت والخراب. نعم إسرائيل مسؤولة، ولكن هل يمتلك قادة «حماس» الشجاعة الكافية لأن يعترفوا بمسؤوليتهم هم أيضا؟