تغيير المعادلة في المنطقة والعالم

TT

قالت تسيبي ليفني، إحدى مجرمي الحرب الصهاينة «إن هذه الحرب ستغير المعادلة في المنطقة»، ولكنها لم تكن تتوقع في اليوم الأول لهذا العدوان الهمجي الذي شنته وزملاؤها لأسبابهم الانتخابية، لم تكن تتوقع أن المعادلة ستتغير في المنطقة والعالم، ولكن ليس بالشكل الذي كانت تأمله وتتوقعه، بل بالشكل المعاكس تماماً. لقد كانت أسباب هذه الحرب على غزة التي خططت إسرائيل لها منذ زمن بعيد واضحة. فالمجازر ضد المدنيين الفلسطينيين هي الدم الذي يغذي كلّ انتخابات إسرائيلية. فإراقة دماء الأطفال الفلسطينيين، وهم نيام في منازلهم، هي العملية التي ترفع من شعبية المرشحين لقيادة هذا الكيان الإجرامي، فالناخبون الإسرائيليون معروفون بتعطشهم لسفك الدماء العربية، بسبب الشحن العنصري للكراهية ضد العرب الذي يتعلمونه تربوياً في المدارس، ودينياً على يد الحاخامات، وسياسياً من قبل الأحزاب الصهيونية والإعلام المحرّض على كراهية العرب.

إن الدارس للانتخابات الإسرائيلية على مدى العقود الماضية، يكتشف نوعاً فريداً من «الديمقراطية»، تعتمد شعبية المرشح على تاريخه الملطخ بالدماء العربية، وعلى ممارسته الفعلية لإبادة المدنيين العرب العزل، وهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، وقتل أطفالهم، ونسائهم، وإعدام أسراهم، وسدّ كلّ سبل الماء والغذاء والدواء في وجههم على الضد من كلّ الشرائع والقوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية، ويستمتع الجمهور الإسرائيلي بالمناظر البشعة للمجازر التي يرتكبها جنودهم، ويعتبرونها انتصاراً، معلنين ابتهاجهم بشكل مقيت ومقزز.

والسبب الثاني الأبعد لهذه الحرب، هو محاولة استعادة قوة الردع الإسرائيلية، بعد أن منيت بهزيمة نكراء في حرب يوليو (تموز) 2006 وفقدت هيبتها على أيدي مقاتلي المقاومة اللبنانية، وكان لهذه الهزيمة تداعياتها الخطيرة على الكيان الصهيوني، ولذلك كان لا بدّ من التفكير بعدوان جديد يعيد للنظام العدواني قدرته على الاعتداء السافر وارتكاب القتل والدمار، لتأكيد حقيقة أن المجازر والتهجير والقتل والدمار تشكل الهوية الأساسية لإسرائيل. وكان من المؤاتي لهذا الكيان أن غزة هي الحلقة الأضعف، خاصة في ظروف انهيار النظام الرسمي العربي، وارتهان الإرادة السياسية للهيمنة الأمريكية، وتواطؤ إدارتي بوش وأولمرت على تدمير الديمقراطية الفلسطينية، وإغراقها بالخلافات والدماء، ولذلك فرض العدو عليها حصاراً منافياً لكل الشرائع الدولية منذ سنوات، ولذلك كان من المتوقع، إسرائيلياً، أن يكون العدوان على غزة قصيراً وسريعاً ومحققاً للأهداف التي رسموها. كل هذا بذريعة إطلاق الصواريخ من غزة، التي هي ذريعة واهية، لا علاقة لها بالعدوان، وتشبه ذريعة بوش لغزو العراق بوجود أسلحة الدمار الشامل ودعم العراق للقاعدة، وتشبه ذريعة أولمرت عام 2006 بأسر الجنديين لشن عدوانها على المدنيين اللبنانيين.

أما ما لم يدخل إلى تفكير ورؤية وتخطيط مجرمي الحرب الجدد الذين يسيرون على هدى مقولة بن غوريون «الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت»، فهو أنهم أمام شعب مقاوم للاحتلال، توّاق للحرية، ورافض للذل منذ ستين عاماً، هي عمر الإرهاب الإسرائيلي المتواصل. إن ما لم يخطر ببال قتلة الأطفال والنساء من الحكام الإسرائيليين هو أن غزة الصامدة ستقاوم، لتاريخه أربعة عشر يوماً، بصدور أبنائها وبناتها وأرواح شهدائها من الأطفال وبصلابة نسائها، وبإيمان رجالها وتمسكهم بالأرض والكرامة والعزة. ما لم يخطر للإسرائيليين ببال هو أن العرب الذين يصورونهم بأبشع الصور في إعلام وأذهان الغرب، مستغلين فساد وممارسات البعض وانكسارهم فكرياً وعقائدياً، أن عرب غزة، وعلى عكس ما ظن أعداؤهم، قد أعدوا لهم من المقاومة والصمود، اللذين برهنا على أنهما أسطوريان في وجه أبشع محرقة ترتكب بحق أي مجموعة بشرية في التاريخ الحديث، وهذه المقاومة وهذا الصمود، وليس العدوان الغاشم المجرم، هما اللذان بدآ بتغيير المعادلة في المنطقة والعالم.

أول تغيير مهم في المعادلة هو أن المواقف من العدوان المجرم بدأت تفرز العرب بأعين أبنائهم وأجيالهم فرزاً حقيقياً، وأخذت الخيوط المتشابكة، التي عمدت في السنوات الأخيرة على مساواة المتواطئ مع المجاهد، والذليل مع المقاوم، أخذت هذه الخيوط تتضح معالمها وألوانها وبداياتها ونهاياتها. فالموقف من المقاومة العربية في غزة، التي تدافع عن كرامة العرب جميعاً ومكانتهم تحت الشمس، أصبح هو معيار العروبة والوطنية، وظهرت الفجوة واضحة وواسعة بين ضمير الأمة، الذي عبرت عنه الجماهير العربية الغاضبة، وبين حكامها، الذين اعتادوا الصمت، فانتفت مبررات تمسكهم بسلطة لا تمثل الإرادة العربية، وبذلك ظهرت الحاجة إلى ديمقراطية عربية تعبّر عن إرادة العرب، وليس أعدائهم، وبذلك ظهر تغيير سيكون له تأثير طويل الأمد يرتبط فيه احترام الجماهير للحكام والنظم والمؤسسات بقدر تعبيرها عن كرامة الأمة وحقوقها، وبقدر قدرتها على التصدي للطغاة ومجرمي الحرب. فاكتشف الجميع أن العروبة بخير، حيّة تنبض في ضمائر وقلوب الملايين من موريتانيا إلى اليمن والبحرين والكويت، مروراً بأقطار المغرب العربي وسورية ومصر والسودان وكلّ بلد ناطق بالضاد، بل إن هذه المظاهرات لم تهدأ في عواصم ومدن العالم المسلم، وأيضاً في دول المتحالفين مع العدو في الأميركيتين وأوروبا، وفي الدول الصامتة، مثل الصين والهند. هذا العدوان الوحشي على الأطفال والنساء والرجال، وسدّ سبل الإغاثة في وجه شعب محاصر يُقصف بجميع أنواع الأسلحة المحرمة دولياً، وفّرَ فرصة للعالم برمته، كي يرى الوجه الحقيقي للكيان الغاصب، بأنه كيان عصابة من مجرمي الحرب، لا يحترمون الأعراف الدولية للحروب، بل يقتلون حتى موظفي الإغاثة والمسعفين وسائقي شاحنات الطعام والدواء من الأونروا، ويمنعون الصليب الأحمر من إسعاف الجرحى، ويقتلون الأبرياء في الملاجئ، ويعدمون الأسرى ويقصفون المنازل، ولا يصدق في كلمة أو هدنة مؤقتة، فيقصف المدارس، وهي مليئة بالطلاب، والمساجد على رؤوس المصلين الخاشعين لله، ويترك الأطفال أياماً مع جثث أهليهم، دون أن يسمح بدفن الجثث، أو نقل الأطفال خارج مكان المجزرة التي ارتكبت بحق أهليهم. ما تكشّف للعالم في هذا العدوان هو مدى همجية حكام إسرائيل والإرهاب المنظم الوحشي، الذي هو بالنسبة لهم أسلوب حياة وطريقة عيش عادية، فساهم هذا العدوان الغاشم في إعادة القضية الفلسطينية إلى وعي وضمير الإنسانية في كلّ مكان في العالم. واتخذت الشعوب الحيّة، مثل شعوب فنزويلا وتركيا وإيران وقادتهم، موقفاً مشرفاً يجب أن يخجل منه بعض العرب.

إذا كانت نتائج حرب 2006، وحرب بوش على العراق، قد ساهمت في تعرية صورة الولايات المتحدة الداعمة دوماً للعدوان والحرب والمجازر ضد العرب أينما كانوا، فإن العدوان على غزة وجرائم ليفني وباراك الفظيعة من إبادة عوائل بكاملها أدى إلى تغيير مهم، وهو الوعي بضرورة محاسبة القتلة ومجرمي الحرب من قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين الذين تمادوا في ارتكاب جرائم الإبادة ضد المدنيين منذ ستين عاماً، بسبب التواطؤ والتخاذل العربي من جهة، وبسبب النفاق الغربي المعهود من قبل قادة أميركا وأوروبا الذين يلاحقون مجرمي الحرب في كوسوفو ورواندا، ولكنهم يحمون مجرمي الحرب الإسرائيليين. إن المحرقة التي ارتكبتها ليفني في غزة ستشكل لطخة عار في تاريخ إسرائيل، سيتذكرها الناجون من هذه المحرقة الذين سيولدون من هذه المأساة الدموية أشد بأساً واحتراماً لحقوقهم وعروبتهم وحريتهم. أما على مستوى العالم العربي، فإن هذا العدوان سيكون علامة فارقة في تاريخ هذه الأمة، يبدأ التحول بعدها باتجاه ولادة قيادات عربية تنتصر لأبنائها وتغضب لسفك دمائهم، وتتحرك لردّ العدوان عنهم، وتأبى الذلّ لأي مواطن عربي في أي بلد من بلدان هذه الأمة، وتعمل كلّ ما يتوجب عمله كي تضمن كرامة وحقوق ومستقبل العرب أينما كانوا. أما على المستوى الدولي، فإن المعادلة ستكون لنصرة الشعب الفلسطيني الأعزل التواق للحرية والاستقلال والديمقراطية ضد المحرقة المستمرة ضده منذ ستين عاماً. إذاً المعادلة ستتغير حتماً، وقد بدأت في التغيير في المنطقة والعالم، ولكن بعكس ما رغبت وخططت له آلة الإجرام الإسرائيلية، فالتاريخ يؤكد دوماً، وفي كل مرة، أن الهزيمة للطغاة والغزاة ومجرمي الحروب، أما الانتصار، فهو دوماً للحرية والكرامة والمقاتلين من أجلهما.

www.bouthainashaaban.com