أميركا في حالة صدمة

TT

في الوقت الذي دخلنا فيه عتبة عام 2009، لا تزال الولايات المتحدة تعاني من حالة الصدمة، وليس السبب في ذلك ما قد يتبادر إلى الأذهان، أنه نتيجة لتولي شخص أسود سدة الحكم في البلاد، فشخصية باراك أوباما، تتمتع بحميمية تتماشي مع تركيبة التنوع العرقي والإثني لأميركا اليوم، أكثر من العنصر البروتستانتي الأنجلو ـ ساكسوني الأبيض، الذي بات يوشك على الاختفاء، والذي يماثل نوعية جورج بوش. دائماً ما تعمل السياسة على تنظيم التغيرات الثقافية، وليس العكس. إن الولايات المتحدة في صدمة، لأن المشهد الاقتصادي والمالي بات غير محدد المعالم.

في غضون شهور قلائل، انتقلنا بعيدا عن قلعة رأسمالية السوق الحرة والاستهلاك الحر ـ من نظام صناديق تحوط رنانة، وهامرز ومنازل تضاعفت أسعارها ـ إلى نظام تحولت فيه البنوك والتأمين والشركات وصناعة الرهن العقاري وصناعة السيارات إلى ما يشبه التأميم. وإضافة إلى تلك الصدمة، فهناك حقيقة أن مستثمري الطبقة الوسطى رأوا استثماراتهم التي كانوا يعتمدون عليها من أجل تقاعدهم تتقلص بمقدار النصف.

ومصطلح زيادة الضرائب، الذي صاغ سياسات الحزب الواحد الأميركية لعقود، تم استبداله بين عشية وضحاها بسياسة مشتركة وافق عليها الحزبان تطالب بتقديم ما يقرب من تريليون دولار كمحفزات للسوق. ولم يكد ميلتون فريدمان يموت في عام 2006، حتى بُعث من جديد جون ماينارد كينز. المثير للدهشة أن التحول التاريخي إلى سياسة التصنيع التي توجهها الدولة في الولايات المتحدة، قد خضع للمطالب الملحة التي تنادي بإشراف الدول على الشركات، بداية بالشركات الكبرى الثلاث لصناعة السيارات في ديترويت.

ونظرا لذلك فإن عام 2008 سوف ينظر إليه في التاريخ الأميركي على أنه أكثر الأعوام محورية في التاريخ الأميركي، من عام 2001 الذي شهد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ولأن حياة الأميركيين كذلك سوف تتشكل ـ إلى حد بعيد ـ وفقا لنتائجه. نحن نتحدث عن تحول النموذج الأميركي ككل، فلم يكن جوزيف ستيجلز، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، مبالغا عندما قال لي في بداية هذا العام، «إن سقوط وول ستريت يعتبر سقوطًا للرأسمالية، كما كان سقوط سور برلين بالنسبة للشيوعية»، ولذا فإننا في فترة زمنية مختلفة.

لن يُحكم على باراك أوباما بلون بشرته أو حتى مضمون شخصيته، وإنما سيتم الحكم على كيفية قيادته للبلاد ونجاح سياساته في إنهاء الكساد وعودة أميركا مرة أخرى إلى الطريق الصحيح نحو الرخاء.

وقد أخبرني هنري بولسون وزير الخزانة في بداية هذه الأزمة في عام 2007، على عكس الأوقات الأخرى من الأزمة في السوق، فإن الأزمة الحالية لم تكن ناتجة عن مشكلات في الاقتصاد الحقيقي، بل إن المشكلات الحالية ناجمة عن الإسراف في ممارسات الإقراض غير المنظم التي حدثت، والتي جاءت، في بعض منها نتيجة للسيولة الكبيرة المتاحة التي وفرتها المدخرات الصينية والموارد الأخرى، مثل الدول الخليجية والاقتصاد الأميركي الضخم. وقد كان بعض المقرضين يحاولون الوصول في بعض الأسواق إلى أرباح، في وقت كان معدل المخاطرة والفائدة منخفضا إلى حد بعيد.

وأطلعني الممول جورج سوروس في نوفمبر (تشرين الثاني) في محادثة معه على الصورة الكاملة فقال، «الموقف الحالي ليس مجرد فقاعة إسكان». وأضاف «لم تكن فقاعة السكان سوى الشرارة التي أدت إلى فقاعة أكبر، والفقاعة العملاقة جاءت نتيجة الإسراف في استخدام الائتمان وازدياد نفوذ استخدام الدين والائتمان في الاقتصاد، ممتزجا بالاعتقاد بأن الأسواق التي تصحح نفسها بنفسها استغرقت 25 عاما لكي تنمو، وهي الآن تتعرض للانفجار».

ونتيجة لما ذكره سوروس فإننا نشهد الآن تحول القوة من القوة الأميركية العظمى إلى دولة آسيوية متخمة بالدولارات، وما ذلك إلا نتيجة «لخطايا الأعوام الـ25 الماضية» (وبينما أكتب سطور هذا المقال أجد الكثير من المستثمرين الصينيين يجولون في ساوزرن كاليفورنيا بحثا عن صفقات عقارية).

ومهما كانت مسؤولياته، فإن التحدي الكبير الذي يواجهه أوباما، هو تبين لغز كيفية تصحيح اختلال التوازن العالمي، خاصة مع الصين، التي تعيد في ذات الوقت إشعال النمو الأميركي. ومن المؤكد أنه في الوقت الذي تحول فيه الصين استثمارات احتياطياتها الواسعة لتحفز اقتصادها المتباطئ، بدلاً من شراء سندات الخزانة، فإن الدولار سوف يبدأ في الهبوط. وإذا ما كان الأميركيون في صدمة اليوم بسبب كيفية تحول ثرواتهم إلى جبهة قومية، فإنهم لن يفقدوا صوابهم غدا عندما يدركون مدى ارتفاع التكاليف على الساحة العالمية لإعادة المنازل مرة أخرى إلى ما كانت عليه في الحلم الأميركي.

* رئيس تحرير «إن بي كيو» و«غلوبال فيو بوينت»

خاص بـ«الشرق الأوسط»