من غير ما حد ياخد باله

TT

من آليات التفكير الثوري سياسياً كان أو عقائدياً، الكفر بالواقع بأكمله، ومن ثم العمل على تدميره دفعة واحدة، أو على مراحل. وذلك بعكس آليات التفكير الطبيعي الذي يحرص على الحفاظ على الواقع، مع تدعيمه بعمليات الصيانة المستمرة، بما تتطلبه من تغيير للأجزاء التالفة، والحرص على عمليات الإحلال والتبديل، بما يضمن استمرار ماكينة الحياة في الدوران بقوة ونعومة. وهي عملية تتطلب المعرفة اللازمة لإجراء ذلك مع قدر من الخيال وقدرة على معرفة مواطن الخلل؛ لمعالجتها مباشرة في أقصر وقت. وإذا كانت هذه العمليات التفكيرية تتم في العقل، إلا أنها نابعة أساسا من النفس بكل ما نعرفه عنها، وأيضا بكل ما نجهله فيها. وهي لا تنبع فقط من النفس بل هي تستند أساسا إليها. ولتبسيط الصورة أقول لك، إذا كان العقل هو الموتور، فالنفس هي قاعدة هذا الموتور الصلبة التي تثبته بإحكام إلى جسم السيارة.

أعود إلى شرح ما أقصده من جملة الكفر بالواقع. إنها مجموعة انفعالات وعواطف سلبية نتجت من عجز صاحب التفكير الثوري عن التوافق مع معطيات الواقع كما هي عليه، بما يجعله عاجزاً عن الإنجاز الذي يفيد هذا الواقع، ويجعله جزءاً منه، وهذا ما يجعله كارهًا له وحربا عليه. كل هذه الأجزاء المعطوبة في النفس تصيب الإنسان بما نسميه الغيرة المرضية، تفرقةً لها عن الغيرة الطبيعية الدافعة إلى النمو والتقدم. من المستحيل أن تقطع الحياة خطوة واحدة إلى الأمام بغير أن يشعر الإنسان بقدر كبير من الغيرة الطبيعية. كما أنه من المستحيل نمو الحياة عندما يقودها أشخاص يعانون من الغيرة المرضية. من هواياتي هذه الأيام، مشاهدة أبطال نجوم الفضائيات، ودراسة آليات التفكير عندهم، وطريقتهم الفذة في إخفاء ما تريده أنفسهم بالفعل. هي تسلية من نوع فريد، أنْ تراقب أكاذيبهم بعد أن يلفوها ببراعة في أوراق السلوفان الفضي اللامع. سأذكر لك جملة واحدة تتردد كثيراً هذه الأيام على ألسنة هؤلاء النجوم: على مصر أن تفتح المعابر (الواقع هو معبر واحد، وهو مفتوح لكل ما تقتنع الدولة بأن هناك حاجة إلى عبوره).. ليس هذا فقط.. عليها أيضاً أن تمد المقاومة بالسلاح اللازم لصمودهم.

وهنا يتدخل المذيع ليذكره بما تفرضه معاهدة السلام من التزامات، وهنا يقول ما نسميه بـ (الجملة المفتاح)، وهي: خلاص نساعدهم ونبعت لهم السلاح من غير ما حد ياخد باله.

الإخفاء والتمويه والخداع الاستراتيجي الذي يستخدمه العسكريون في حالة الحرب، كجزء من مهنتهم، يستخدمه المتطرف في كل الحالات، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه في حالة حرب دائمة طوال الليل والنهار ضد الواقع. إنها الحرب التي تحتمها الغيرة المرضية التي تعمل على تدمير الواقع. هذه الجملة ـ من غير ما حد ياخد باله ـ على بساطتها، تشرح بجلاء آليات التفكير عند صاحب العقل المتطرف، وهي أيضا ما يوقعه في دائرة السيكوباتية، هو على استعداد لارتكاب أي مصيبة، بشرط ألا يراه أحد. هو لا يفكر في الصواب والخطأ، بل يتساءل: هل يراني أحد الآن وأنا أرتكب هذا الخطأ؟.

من المستحيل في هذا العصر إخفاء عملية نقل سلاح من مكان إلى مكان. وقائل هذه الجملة يعرف ذلك جيدا، نظرا لطبيعة مهنته السابقة ودراسته، ويعرف أن ما ينصح به لن تترتب عليه إلا كارثة تصيب الدولة، وهنا نتوقف لنقول، بقدر غرابة الكلمة، بقدر ما هو صادق في قولها، هو يطلب هذه الكارثة للدولة، بوصفها تجسيدا للواقع الذي كفر به. كفر به إلى الدرجة التي أسكتت تماما صوت العقل عنده، مما سمح لنفسه بأن تطلب في وضوح ما تريده. تلك النفس المعذبة بالإحساس بالضآلة وعدم الجدوى والرغبة في العدوان على الحياة.

أنا واحد ممن يؤمنون أن قوانين الحياة واحدة، وبذلك تكون فضائل الإنسان الفرد هي ذاتها فضائل الدولة، ومن لا يعرف ذلك أو ينكره، عليه أن يراجع فكرته عن وظيفة الدولة، وإذا كانت للفرد أسرار خاصة، من حقه إبقاؤها سرًّا، حفاظًا على خصوصيته، فالدولة أيضا لها أسرارها في نطاق عمل أجهزتها السرية، التي تهدف بها إلى الحفاظ على المجتمع ككل، غير أنها ـ الدولة ـ كأي فرد صادق مع نفسه، لا تلجأ إلى الغش والخداع في تعاملاتها مع بقية دول الأرض، وفي ذلك هي تعطي للجميع القدرة على التنبؤ بردود أفعالها، وهو ما يقويها ويجلب لها الاحترام والثقة الدولية. لذلك، ومن أجل حماية الجماعة، على رجل الدولة أن يكون محصنًا ضد إغراء الديماجوجية، لابد له من ذلك القدر العظيم من الصبر والتحمل، مع مصارحة الناس بالحقائقن والمسارعة بكشف الأكاذيب.

أمر أخير، أود لفت أنظار زملائي إليه.. لا توجد شتيمة في العمل السياسي، أو في مهنة الكتابة بوجه عام. وبعد طلعة السيد حسن نصر الله الفضائية الأولى ضد مصر والمصريين، هبّ أعظم كتاب العرب من المفكرين للدفاع عن مصر. إنها مصر الفكرة، وليست الحكومة أو الدولة، أو أي شيء آخر. لقد انضموا إلى خطوط الدفاع عن مصر بدافع، ليس من نقاء ضمائرهم وحده، بل بدافع من فهمهم العميق لما تحدثت به مصر عن نفسها من قبل.. أنا إِنْ قَدَّرَ الإِلَهُ مَمَاتِي.. لا تَرَى الشَّرْقَ يَرْفَعُ الرأسَ بَعْدِي.

تحية لهؤلاء الكتاب الذين يريدون أن تظل رؤوسهم مرفوعة إلى الأبد.