ظروف الريِّس حسني من ظروف السيِّد حسن

TT

عندما كان الرئيس جمال عبد الناصر يواجه العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 كانت الأمة معه ومع المقاومين البواسل الذين لم يقصروا في اداء الواجب وتحمُّل التضحيات. كما ان مئات الطلاب العرب الذين يتابعون تحصيلهم في مصر سجلوا اسماءهم كمتطوعين في حال فرضت ظروف المواجهة توسيع مناطق المقاومة وكان من بين الشبان العرب المتفاعلين مع الانتفاضة المصرية ضد العدوان الامير سلمان بن عبد العزيز الذي بات أميراً للرياض. ولقد سجل المقاومون المصريون بطولات واضعين بذلك ما يجوز اعتباره حجر الاساس للمقاومة العربية التي تستهدف من عملياتها رد الأذى والعدوان عن الوطن.

في ذلك الزمن لم يكن السيد حسن نصر الله وُلد بعد. وهو عندما جاءت تقديرات الرئيس عبد الناصر في مايو/أيار 1967 للموقف الاسرائيلي ـ الدولي غير دقيقة وورَّط بذلك مصر في مواجهة مع إسرائيل شكلت ندوباً في جبين الدولة العربية الأكبر، كان السيد حسن في السابعة من عمره لا يملك بعد قراءة الموقف الصحيح من الموقف الخطأ. إلاَّ انه عندما بدأت مصر تتنقل من مرحلة ازالة آثار الخسائر الناشئة عن عدوان يتحمل عبد الناصر شخصياً أو من خلال المشير عبد الحكيم عامر الذي لا رادَّ لرؤاه مع انها غير واقعية، الى مرحلة الثأر من هزيمة 1967 متمثلة هذه المرحلة بـ«العبور العظيم» للجيش المصري واسترجاع سيناء بانتصارات عسكرية أسست بعد ذلك انجاز الاسترجاع بمعارك دبلوماسية، كان السيد حسن في الثالثة عشرة من العمر يتابع عبْر الراديو وهْج الانتصار المصري الذي تجلَّى في الحرب التي قادها الرئيس الخلَف أنور السادات وكان دور القوات الجوية المصرية فيها مبهراً وفاعلاً من خلال همم مجموعة من الطيارين البواسل من بينهم حسني مبارك الذي كان زمنذاك في السادسة والثلاثين والذي أنجز الثمانين من العمر يوم 4 مايو/أيار الماضي مواصلاً للسنة الثامنة والعشرين على التوالي منذ اغتيال الرئيس السادات يوم 6 أكتوبر/تشرين الاول 1981 ترؤس مصر بشرعيتيْن: الشرعية الدستورية كونه شغل في سنوات الترؤس الساداتي منصب نائب رئيس الجمهورية تثبيتاً للخيار الساداتي بأن يكون منصب نائب الرئيس من حصة الجيش، مما يعني ان يصبح السيد النائب هو السيد الرئيس بعد وفاة الرئيس، مع ملاحظة ان الرئيس مبارك أراد ضمناً بعدم تعيينه نائباً له هو على الأرجح لترئيس مَن ليس عسكرياً بما يتيح الفرصة أمام المدني الكفوء لتولي المنصب. تلك هي الشرعية الدستورية التي بموجبها يترأس مبارك. أما الشرعية المضافة فهي شرعية البطولة في تأدية الواجب وتمكُّنه من الحاق خسائر أرضية وجوية في صفوف الجيش الاسرائيلي خلال حرب 1973 وقيادته السرب الأكثر فاعلية في تلك المواجهة التي كانت تبدو مستحيلة إلى أن عبرت القوات المصرية وحطمت أسطورة خط بارليف.

ما نريد قوله من هذا الاستحضار لزمن مضى هو أن الرئيس مبارك لا يعيش، كما بلده، عقدة الواجب الوطني حيث انه أداه أفضل تأدية، وهو أمر يدركه تمام الإدراك الشعب المصري والجيش المصري. والطرفان قد تستوقفهما سلبيات في سلوك التعامل مع مرحلة ما بعد التسوية مع اسرائيل برعاية أميركا كارتر التي بدأها الرئيس السلَف أنور السادات ولا يفرط بها الرئيس الخلَف حسني مبارك، وهي تسوية لم تأت في شكل هدية وإنما بعد تضحيات أُريقت خلالها دماء وسقط من أجلها الوف الشهداء. كما انها جاءت على حساب مشاريع تنمية تعطلت أو جُمِّدت عملاً بشعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة».

وفي ضوء هذا الاستحضار يستغرب المرء كيف ان الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله وقد بات في صدارة المشهد العربي يقول ما قاله مرتين عن مصر، مع انه يعرف مدى قسوة الظروف على القائد الذي يريد مخلصاً ان يساعد بشكل عملي أو من خلال موقف سياسي متقدم لكنه يجد ماردَ التداعيات منتصباً أمامه فلا يُقدِم على ما يتمنى صادقاً الإقدام عليه. وعندما نقول ذلك فإننا نعني ان الرئيس مبارك يتمنى في ضميره لو يستطيع تحريك قوات ترابط على مشارف غزة ليقول من خلالها للإسرائيليين: كفى عربدة.. وإلاَّ. ولكن الظروف التي تعيشها مصر والقيود التي تكبل اليدين والناشئة عن معاهدة كامب ديفيد تجعل الرئيس مبارك يخوض فقط مواجهة سياسية قد تحقق نتائج ليست بمستوى التطلعات والتمنيات وإنما هي بمستوى الممكن.

وظروف مصر تبقى أكثر تعقيداً من ظروف الحكم السوري الذي لا يلام لأنه لا يُشعل الجبهة مع إسرائيل ناراً، خصوصاً انه لم يرتبط بمعاهدة سلام. لكنه من أجل هذه المعاهدة التي طالما سعى لنيْلها وطالما تجاوب مع وسطاء لم تنضج بعد وساطتهم، يتحمل ما يقال في شأن موقفه ويؤثر الإبقاء على موقفه الراهن الذي يؤازر «حماس» وأخواتها سياسياً وهي مؤازرة تجذب حكومات اجنبية للتحدث مع الرئيس بشَّار في شؤون كثيرة. كما ان ظروف مصر تبقى اكثر تعقيداً من ظروف الحكم الايراني غير المكبَّل بمعاهدة والذي في استطاعة صواريخه ان تصل الى اي مكان في اسرائيل، لكن هذا الحكم يخشى ان يصيبه ما اصاب صدَّام حسين الذي ارسل صواريخه الاربعين ومن دون ان يكون حسابه دقيقاً. كذلك تبدو ظروف مصر أكثر تعقيداً من ظروف «حزب الله» نفسه، اذا نحن افترضْنا ان الحزب لم يأخذ العبَر مما جرى في المواجهة مع اسرائيل في يوليو (تموز) 2006 وانه مستعد لنصرة الحليف «الحماسي» الذي يواجه عدواناً اكثر شراسة من العدوان التموزي. لكن الحزب مكبَّل ارادة المؤازرة بفعل الأمر الواقع الدولي المتمثل بوجود قوات «اليونيفيل» وهو واقع يفرض عليه ضبْط النفس وكتْم الغيظ والتشديد على نفي علاقته بأي صاروخ يتم العثور عليه في ارض حدودية او ينطلق عبر الحدود في اتجاه اسرائيل.

ولأن الامور على هذا النحو فإن الكلام الخشن في حق مصر لا يجدي ويجر كلاماً بالخشونة نفسها وهذا ما حدث فضائياً وعلى صفحات الصحف. وفي هذه الحال فإن ما تخسره مهابة السيد حسن نصرالله في نفوس المصريين تبقى اكثر فداحة من بلبلة افترض السيد أنها ستسود الصف المصري بجناحيه: الرأي العام ومؤسسة الجيش. وهو لو كان أدرى بحقيقة النسيج الشعبي للمصري تجاه حاكمه وجيشه لكان تفادى ما قاله، او على الاقل بقي القول على لسان اوساطه وليس منه مباشرة.

ويبقى ان المشكلة الاساسية في ما هو حاصل وفي المحنة التي اصابت اخواننا الغزَّاويين هو أن الاستدراج يسبق التخطيط الدقيق والتصور الموضوعي لما بعد الاستدراج. ولو ان قادة «حماس» استحضروا، وهم يعلنون عن اقتناع او بالتكليف إنهاء التهدئة، قول السيد حسن ما معناه انه لو كان يتصور أن اسرائيل ستشن حرباً تدميرية على لبنان رداً على خطْف الجنديْين لما كان أمَرَ او وافق او ارتضى خطْفهما. وهو قال الذي قاله لأن الاستدراج غير المحسوب يؤدي إلى كارثة. وهذا ما حدث من استدراج «حماس» للإسرائيليين سواء من حيث خطْف الجندي او من حيث الإعلان بمفردات عنفوانية من ان اتفاق التهدئة بات منتهياً. وهو عنفوان كلَّف مصر عبد الناصر كارثة اين منها كارثة غزة، عندما استدرج في مايو (ايار) 1967 اسرائيل موشي دايان الى حرب ربما كان ضمناً لا يتوقعها لأنه ليس مستعداً لخوضها أصلاً، لكنها حدثت وجاءت في بعض جوانب ظروفها مثل استدراج «حماس» لاسرائيل ايهود باراك وزير الدفاع في حكومة ايهود اولمرت المستقالة لكي تمارس اشرس اعتداء على شعب في تاريخ الاعتداءات. وأما الاستدراج المصري فإنه يبقى اكثر الخطوات غير المحسوبة خطورة والذي لا بد يستحضره الرئيس مبارك وهو يسمع كلاماً من هنا وكلاماً من هناك ومطالب لها صفة الواجب لو أن الظروف لم تكن على النحو الذي اشرنا اليه. أما كيف حدث الاستدراج وهل كان من الممكن تفاديه وبذلك لا تشن إسرائيل الحرب على مصر جاعلة عبد الناصر يُمنى بهزيمة رمت بثُقلها على وجدان الأمة، فهذا له حديث آخر على هامش الحقيقة الاساسية وهي ان ظروف الريِّس حسني هي مثل ظروف السيد حسن وان شيوخ «حماس» المقيمين منهم والمتجولين بين دمشق وطهران والدوحة كان من الأفضل لهم قراءة الموقف جيداً لاستبعاد الاستدراج.