اللعبة الدولية: تحييد الجهاديات الحربية

TT

في الحروب، كلما كان الصراخ عاليا كانت الخسارة أكبر. تنتهي الحروب بقراءة ديبلوماسية للخريطة العسكرية. تأخرت التسوية السياسية لحرب غزة، لأن إسرائيل لم تتمكن من رسم وفرض خريطة ميدانية حاسمة في الأسبوعين الأولين.

يغيب عن بال القادة الإسرائيليين ان حرب القرن الحادي والعشرين لا تدور بين جيوش نظامية. المعركة تدور بين جيش نظامي وأشباح تظهر وتختفي. تقاتل وتختبئ. تختفي في البحر المدني. انتصرت أميركا على جيش صدام خلال أسابيع. لم تستطع أميركا أن تحسم تماما مع المقاومة و«القاعدة» خلال خمس سنوات. وهي مع الناتو لم تستطع أن تحسم مع طالبان والقاعدة في أفغانستان وباكستان.

في العجز عن الحسم، تغيرت قواعد التسوية السياسية للحرب. نشأ هناك ما يمكن تسميته بمبدأ «تحييد الجهاديات الحربية» التي تصعب تصفيتها في المواجهة الميدانية. إسرائيل لم تستطع الحسم ميدانيا مع جهادية «حزب الله» الإيراني في الحرب (2006). لكن اللعبة الدولية تمكنت في التسوية السياسية من «تحييد» الحزب عمليا. تم دفع الحزب مسافة ثلاثين كيلو مترا شمالا إلى ما وراء نهر الليطاني: انتشرت قوات دولية كثيفة مع قوات الجيش اللبناني (التي يجري دوليا تسليحها بسرعة) على الحدود، لمنع الاشتباك والاحتكاك بين القوات الإسرائيلية وميليشيا الحزب.

عربيا، كان لتحييد حزب الله سلبياته وإيجابياته. تلهّى الحزب عن «التحرير» بالاشتباك مع القوى السياسية اللبنانية التي أخطأت في تصويره «منتصرا». حتى الشارع العربي، في عجزه العاطفي عن الرؤية السياسية، رسم حسن حزب الله «بطلا»! لم يحاسبه أحد على مسؤوليته مع إيران عن التضحية بـ 1200 لبناني، في مواجهة مكشوفة الأجواء أمام وحشية وهمجية الطيران الإسرائيلي.

حيادية حزب الله انكشفت تماما. بعد أسبوعين من إمساك إسرائيل بخناق حماس في غزة، لم تستطع الجهادية الشيعية «المحيَّدة» من إسناد ومساعدة الجهادية السنية. لم تنطلق صواريخ الأعماق. انما انطلقت صواريخ الكلام من حنجرة حسن الحزب لحث حماس على المجاهدة إلى آخر فلسطيني في غزة.

تمت التغطية على «الحياد» المخزي بمهارة خطابية. من الشاشات التلفزيونية الضخمة، راح السيد حسن يزايد على النظام العربي محملا إياه مسؤولية العجز عن إسناد حماس. في طرافة الغوغائية الدعائية، يلخص حسن القضية بتعيير مصر بعدم فتح بوابة رفح، فيما بقيت بوابته اللبنانية العريضة مغلقة!

واقعيا، تبدو حماس اليوم ضحيةً لعملية غدر واضحة. عبر قيادة خالد مشعل في دمشق، شجعت إيران وحزبها اللبناني حماس غزة على رفض تجديد «التهدئة» مع إسرائيل. ضرب مشعل في لحظة واحدة الوساطة المصرية التي كادت تنجح في إقناع قادة حماس المحاصرين في غزة بتجديد «التهدئة». أمرهم بمواصلة قصف إسرائيل بصواريخ التنك، مغترّاً بعدد من صواريخ غراد الإيرانية التي أمكن تسريبها إلى غزة.

القانون الدولي يمنح الدولة حق حماية مجتمعها (مدنيا كان أو عسكريا) بكل الوسائل المتاحة لها. من هنا، بدا فتور عواصم التسوية الديبلوماسية في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي. لم تتحرك ضده إلا متأخرة، إلا بعدما بالغت إسرائيل في عنفها الجماعي الهمجي ضد المدنيين.

في الحرب الحديثة، يغدو المجتمع المدني أسير الاشتباك بين الجيوش النظامية والتنظيمات الحربية. حروب القرن الحادي والعشرين مجزرة مدنية هائلة، لسد ثغرة انعدام التكافؤ في القوة، تتحرك جهاديات غزة ولبنان والجزائر وأفغانستان وباكستان والشيشان في بحر مجتمعاتها المدنية، في ملاحقته الأشباح، تتجلى وحشية الجيش النظامي (الأميركي والإسرائيلي) في الانتقام من المدنيين.

ديمقراطية الإعلام التلفزيوني أتاحت للجهاديات الحربية تغطية أخطاء رؤاها السياسية. المجازر الإسرائيلية ألهبت التعاطف القومي لدى الجمهور العربي المشاهد، بل أفقدت إسرائيل التعاطف الدولي، حتى أميركا بوش لم تجرؤ على استخدام الفيتو ضد قرار وقف إطلاق النار.

اكتب هذا الكلام يوم الأحد. الحرب دخلت أسبوعها الثالث. الأخطاء تتكرر. إسرائيل تجد نفسها بعد الهجوم عاجزة عن وقف إطلاق الصواريخ. تم تدمير البنى الأساسية للإمارة الحماسية، بحيث يستحيل على حماس استعادة سلطتها وقوتها، حتى بعد الانسحاب الإسرائيلي.

حماس لم تكتشف بعد أخطاء جهاديتها الاستراتيجية. لا يمكن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر بصاروخ تنك منطلق من منطقة محاصرة صغيرة المساحة وبلا عمق استراتيجي ومزدحمة بكثافة سكانية هي الأعلى في العالم (1.5 مليون إنسان في 300 كيلومتر مربع).

اعرف عدوك بقدر ما تعرف نفسك. الجهاديات الحربية العربية لا تملك القدرة على التحليل السياسي. ما زالت تتجاهل التناقضات الصارخة داخل معسكر العدو. في هذا الجهل والمتجاهل، تنعدم فرصة انتهاز الفرصة والظرف المناسبين للحركة أو للتهدئة. أفلت حزب الله من هزيمة محققة بفضل عمقه الاستراتيجي السوري/ الإيراني. ولعل سورية هي التي لجمت إيران، وحالت دون دفع حزب الله إلى التورط في مواجهة غير متكافئة.

الجهادية الحماسية لم تعتبر بأخطائها. قامت حماس بعملياتها الانتحارية في التسعينات في المواسم الانتخابية الإسرائيلية. دفعت جمهور الناخبين العنصريين إلى إيصال القادة الاستئصاليين الى منصة الحكم (نيتانياهو. باراك. شارون). نعم، تم الانسحاب من جنوب لبنان وغزة. لكن تم تسريع الاستيطان في الضفة.

عمليات حماس الانتحارية أدت إلى رفع السور الذي قضم 15 بالمائة من الضفة، وأصبح حدود إسرائيل «التفاوضية» بدلا من خط عام 1967. الانقلاب على السلطة التشريعية وفصل غزة واستمرار قصف إسرائيل بالصواريخ غير المجدية... كل ذلك أكسب إسرائيل تعاطف العواصم الكبرى المعنية، الأمر الذي مكنها من محاصرة غزة وتجويع أهلها، ثم أخيرا القيام بعملية الاجتياح.

بعد العجز عن الحسم ووقف إطلاق الصاروخ، تجد إسرائيل نفسها في مأزق أمام خيارين: الاكتفاء بما تحقق من تدمير الأنفاق وتهميش حماس والانسحاب من غزة. الخيار الآخر استئناف الاجتياح بالاقتحام في محاولة أخيرة ونهائية لتصفية حماس جسديا وعسكريا وسياسيا. هذا الخيار الباهظ الثمن بشريا يفقد إسرائيل كل تعاطف في العواصم الدولية الكبرى المعنية. وقد يجبرها على قبول قرار وقف إطلاق النار، تحت ضغط الفظاعات التي ارتكبتها ضد المدنيين الفلسطينيين.

التسوية الدولية تبلورت من جديد في الاتجاه نحو تحييد صواريخ الجهادية الحماسية بإنزال قوات دولية في غزة، تماما كما تم تحييد صواريخ الجهادية الإيرانية في لبنان. إذا لم تحدث مفاجأة تقلب المواقف، كمبادرة حزب الله إلى التورط بالحرب، فاللعبة الدولية لاتمام تفاصيل وإجراءات تدويل غزة تنتظر حسم تردد القرار الإسرائيلي الميداني والسياسي.

إسرائيل رفضت القرار الدولي. قد تقبله اليوم أو غدا. خالد مشعل. لم يسكت. قدم خدمة كبيرة لها. وضع حماس في موضع الإدانة بإعلانه رفض القرار الدولي والآلية المصرية لتطبيقه!