تجار خلف خط النار

TT

لكل أزمة، مهما بلغت من السوء، من يستفيد منها بشكل جانبي، وكذلك الأمر مع مأساة غزة الحالية. المتضررون من حرب غزة كثيرون، يأتي في مقدمهم أهالي غزة المدنيون، بما يلقونه كل يوم من خوف ورعب ودمار من قبل جيش إسرائيل، ومعهم من يدافع عن فكرة السلام والتعايش في الشرق الأوسط.

الأضرار غزيرة بغزارة الرصاص العبري المنهمر على بر غزة وبحرها. وبغزارة المتظاهرين من اجل غزة ـ في الأعم الأغلب ـ وهذه استجابة إنسانية نقية، ومن اجل حماس ومآرب أخرى، وهذه استجابة سياسية غير نقية.

الحديث هنا ليس عن موقع حماس في هذه الحرب، ولا عن طبيعة دورها ومآلات خطابها ورؤيتها الرفضوية، ولا عن مغازي التحريض الإيراني عن بعد، على طريقة العالم فاروق الباز في فكرة الاستشعار عن بعد، ولا عن حقيقة هتافات أحمدي نجاد ودروسه المقدمة للعرب عن واجب الشهادة والاستشهاد والنضال من اجل فلسطين حتى آخر قطرة دم فلسطينية، فهي ليست بتلك الهتافات القطعية الصدق والخالصة النية، وإن كان فيها شيء من الصدق فهو شحيح كشح نية قاتل عثمان بن عفان، عمرو ابن الحَمِق‏، فقد ذكر المؤرخ ابن الأثير: «أن ابن الحمق وثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال‏:‏ أما ثلاث منهن فإني طعنتهن للَّه،‏ وأما ست فلما كان في صدري عليه!». وهكذا هتافات احمدي نجاد ومرشده الخامنئي حول فلسطين، فلربما كان منها هتافان او ثلاثة للقضية الفلسطينية والبقية لما في الصدور التوسعية الإيرانية!

بكل حال فالحديث هنا ليس عن المتضررين من حرب غزة، بل من استفاد منها بشكل جانبي، فدائما هناك، كما قلنا، من يستفيد من وجود الأزمات والمصائب، حتى أكثر صور المصائب قتامة، مثل موت العزيز او الحبيب، تجد من يحصل مصلحة من ناصبي السرادق إلى مقدمي القهوة الى الندابات المستأجرات، فكيف بأشكال المصائب الأخرى الأكثر التباسا وتعقيدا.

لن اتحدث عن شكل الاستفادة لدى الجانب الإسرائيلي، فهناك من أشار بشكل مستفيض عن حرب المواقع الانتخابية بين العمل وكاديما والليكود داخل المجتمع الاسرائيلي، وهو حديث ليس بالجديد ولا المثير بالنسبة للقارئ العربي، فما هو الجديد في الإشارة إلى استغلال «العدو» الإسرائيلي لدماء الفلسطينيين.

الجديد في مأساة غزة هو الإشارة الى من حاول، لدينا، استثمار الدم البريء المراق في غزة على شكل رصيد انتخابي او سياسي او دعاية حزبية او حتى تجارية وعلاقات عامة. كما صنع بعض الفنانين في ركوب الموجة او بعض الشركات التجارية في الإعلان عن تبرعاتها لغزة، وهي ربما تكون ميزانية مرصودة أصلا لإعلانات الشركة في الأحوال الطبيعية. أما الفنانون فلا أدل ولا أوضح ولا أظرف من طريقة « فنان الشعب» والمعبر عن «نبض الشارع» شعبان عبد الرحيم الذي تقلبت أخبار أغانيه في هذه الأزمة تبعا لتقلب الأحداث وتسارعها من أغنية في مديح جزمة منتظر الزيدي الى اغنية في توعد اولمرت الى اغنية في الدفاع عن «الريس» مبارك، في ظرف أيام، إن صحت الأخبار عن فنان الشعب.

الأمثلة الأخيرة قد تكون اهون انواع الاستغلال والاستفادة من مأساة غزة، انما تغادر البراءة حين يكون الاستغلال لمأساة غزة على شكل تكريس لمكاسب سياسية ضد طرف آخر أو ترسيخ لصورة إيديولوجية معينة لفرق التصلب القومية والتسييس الدينية. وهذا ما بدا جليا في ممارسات بعض النواب الأصوليين في أكثر من بلد عربي، أبرزها كان ما جرى في مصر هذه الأيام، حين تحول التناكف بين تيار الاخوان المسلمين وبين جماعة الحزب الوطني الحاكم إلى مسرح جديد هو مسرح الاحداث في غزة، فصعد الاخوان من لهجتهم، وأكثروا من هجاء السياسة المصرية في تطابق تام مع لغة احمدي نجاد وحسن نصر الله وخالد مشعل، والى حد ما مع همهمات عاصمتين عربيتين في بلاد الشام والخليج. في الأيام القليلة الماضية التي قضيتها في مصر، مراقبا كل الصحف المعارضة والمستقلة والقومية ومتحدثا الى بعض الخبراء في الحزب الوطني او المستقلين او الباحثين السياسيين، لاحظت هذا الانقضاض الاخواني على قضية غزة واحتكار الحديث باسمها واختزالها في موضوعة الصراع بين حق الاخوان وباطل النظام، وهو ما تكشف بشكل مدهش في تراشقات نواب الاخوان مع نواب الوطني في مجلس الشعب المصري حيث تحولت جلسة برلمانية عادية صباح السبت الماضي الى رفع نواب الاخوان للاحذية ضد نائب من الوطني قال ان البعض في مصر تابع للخارج، ثم كثر الهرج والمرج للدرجة التي هتف فيها النائب الاخواني سيد عسكر بصوت قوي: «الإسلام هو الذي يوحد الأمة.. والإسلام أولاً ثم مصر»، فانفعل الدكتور مصطفى الفقي وقال: «لا.. مصر أولاً». (جريدة المصري اليوم 11 يناير الحالي). وبالمناسبة فالدكتور مصطفى الفقي رجل قومي الهوى والتفكير وشديد التعلق بالقضية الفلسطينية.

هنا نسأل، ما دخل النقاش في قصة هوية الدولة ومفهوم الدولة، وهو نقاش سابق لازمة غزة، بل سابق لنشوء حركة حماس والإعلان عنها في 1987، بل سابق حتى لإعلان ولادة إسرائيل سنة 1948، ذلك أن كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) الذي صدر سنة 1925 كله تفنيد لفكرة أن الإسلام حدد شكلا معينا لطريقة الحكم والدولة، بل اعتبر ذلك من شؤون الدنيا التي نحن أدرى بها، في سجال لم يبتدئ مع كتاب الشيخ الأزهري عبد الرازق ولم ينته بحذاء النائب الاخواني المصري، ما دخل هذا النقاش كله، بموضوع مرور المساعدات الطبية من معبر رفح المصري، او الجدال حول كيفية فتح المعبر هل هو للمساعدات والاعتبارات الإنسانية فقط في الوقت الراهن، أم هو حتى للسلاح كما قال حسن نصر الله ومن بعده خالد مشعل في خطاب الرد على قرار مجلس الأمن الأخير.

واضح إذن أن الاخوان خلطوا خطابهم واختلافاتهم مع غيرهم حول مسائل ذات طابع جدالي في الدولة والمواطنة والدين والهوية، بأزمة تجري حاليا في غزة لأسباب مرحلية تتعلق بتضاد مصالح سياسية وامنية بين مصر الدولة وحماس الحركة ذات الارتباطات والتحالفات المخيفة للرؤية المصرية الأمنية العليا.

ومن أظرف وأخطر ما رأيت في هذا الصدد الخبر الذي نشرته صحيفة الوطن الكويتية عن دعوة احد رموز تيار الجهادية السلفية في الكويت وممن له حظ طيب في ملف التطرف، الى استقبال تبرعات غزة وإيصالها في ظرف نصف ساعة إلى أهلها دون المرور بشروط الحكومة الكويتية، بل بمعرفته الخاصة، كما نشرت صحيفة الوطن الكويتية (11 يناير الحالي).

الحقيقة انه في زحمة الصورة الكبيرة، وفي ضجيج المظاهرات، وبين يدي جلال الألم ورهبة الموت وانكسارة الأم المفجوعة بولدها، في هذا الاكتظاظ المشاعري الانساني، يتسلل باعة العملات المضروبة في السوق السوداء، عملات من كل نوع وبكل لغة، ولا يتضح مدى ما جنوه من مكاسب غير نقية الا بعد هدوء العاصفة، لذلك نشير إليهم، الآن، وفي عين العاصفة.

[email protected]