محرقة غزة تقلق فرنسا

TT

إنه لمؤسف أن يكتب الفيلسوف اندريه غلوكسمان مقالة كاملة في جريدة «الفيغارو» لكي يشرح لنا معنى عبارة: الاستخدام المفرط للقوة!، فبدلا من أن يعترف بالجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين العزل في إقليم غزة الفقير المحاصر راح ينخرط في مناقشات سوفسطائية لا طائل من تحتها. وهذا يعني أنه محرج بكل بساطة، ولا يعرف ماذا يقول، ولا كيف يدافع عما لا يمكن الدفاع عنه. فهذا المثقف الذي ناضل من أجل شعب الشيشان، وهاجم بوتين بعنف لأنه قصف غروزني وسواها بطريقة وحشية لا تختلف كثيرا عن المناهج التي يتبعها الإسرائيليون حاليا ضد غزة، كان ينبغي عليه أن يقول شيئا له معنى أو ألا يقول شيئا على الإطلاق. وذلك لأن أول واجب على المثقف، وخاصة إذا كان فيلسوفا، هو أن ينتصر للحقيقة، حتى ولو كان ذلك ضد جماعته أو طائفته. أقول ذلك وأنا أشعر بالحزن، لأني أحب مؤلفات غلوكسمان الفلسفية، وأستفيد منها كثيراً.

لحسن الحظ، فإن جان دانييل رئيس تحرير مجلة «النوفيل اوبسرفاتور» لم يتوان عن مواجهة الأمور وجها لوجه وإدانة الدمار الذي لحق بغزة وسكانها. لا ريب في أنه يدين الأصولية العنيفة الميالة إلى الفاشية لحماس بحسب تعبيره، ولكنه لا يرى أي مبرر لهذا الاجتياح الرهيب الذي قتل مئات المدنيين البسطاء حتى الآن. فالجيش الإسرائيلي يستخدم طاقة أكبر بألف مرة من طاقة حماس في هذه المواجهة الشرسة، ويخلف وراءه كل هذا العذاب البشري والضحايا الأبرياء. ولا يتردد جان دانييل عن القول بأنه كيهودي يشعر في أعماق أعماقه بأنه مهان بسبب هذه العملية الاستئصالية التي تقوم بها إسرائيل حالياً. وذلك لأن شعب المحرقة الكبرى لا ينبغي أن يمارس شيئاً يشبه المحرقة والاستئصال على الآخرين!.

والواقع أن المرء لا يمكنه إلا أن يتساءل: هل يحق للمثقفين اليهود بعد الآن أن يتحدثوا عن المحرقة النازية صباح مساء كما كانوا يفعلون سابقا؟. ألن يكون صعبا عليهم أن يفعلوا ذلك بعد محرقة غزة؟، بل يمكن القول بعد مائة سنة من الصراع على فلسطين وبداية سياسة التهجير والمجازر قبل دير ياسين وبعدها. ولا ننسى أيضا محرقة بيروت وصبرا وشاتيلا وقانا وجنوب لبنان.. لقد كان الشعب اليهودي قبل هذه المجازر قادرا على أن يعطي دروسا أخلاقية للبشرية كلها وينصّب نفسه على رأس الضمير العالمي. ولكنه الآن فقد هذه الورقة التي لا تقدر بثمن. وبالتالي، فإن جناية الجناح المتطرف في الصهيونية عليه كبيرة جداً وربما كان هو الخاسر الأول من معركة غزة. وسوف يدركون ذلك قريبا.

أما فيما يخص المسرح الفرنسي الداخلي، فإن الكثيرين يخشون من انعكاسات هذا الصراع الجهنمي عليه. ففرنسا تضم أكبر طائفتين يهودية وعربية في فرنسا. الأولى سبعمائة ألف، والثانية خمسة ملايين على الأقل.

أما آخر مظاهرة لصالح الفلسطينيين يوم 10 يناير فقد ضمت بحراً من البشر في شوارع باريس: مائة ألف شخص!، والواقع أن الناس يقفون عموما مع الضحية لا مع الجلاد. ويرى عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل فييفوركا أن اليهود الفرنسيين محرجون جدا الآن. صحيح أنهم متضامنون عموماً مع إسرائيل، ولكن ليس بنسبة مائة في المائة، كما يزعم البعض. وصحيح أنهم يكرهون حماس، كمنظمة أصولية لا تعترف بإسرائيل كما تفعل السلطة الفلسطينية، ولكنهم لا يؤيدون التدخل الإسرائيلي كليا أو بشكل مطلق. ثم إنهم يخشون من رد فعل الجالية المغاربية الإسلامية عليهم. وقد تحصل حوادث ضد الأشخاص أو المؤسسات اليهودية. وقد ابتدأ ذلك يقلق السلطات الفرنسية. ولذا حذر برنار كوشنير وسواه من تصدير الصراع العربي الإسرائيلي إلى فرنسا. ولكن لا ينبغي أن نستهين بالعناصر المتطرفة داخل الجالية اليهودية أيضا كميليشيات البيطار الصهيونية. فهي قادرة على الضرب والاستفزاز والتحريض. والأصولية ليست من جهة واحدة وإنما من جهتين.

أما فيما يخص المعسكر الآخر، فإنه يضم القوميين العرب والوطنيين الفلسطينيين الذين يتظاهرون دفاعاً عن قضية سياسية، أي قضية تحرر وطني، ومن منطلق علماني. ولكن الجناح الآخر من المتظاهرين يتحرك لأسباب إسلامية ويعتبر قضية فلسطين قضية دينية بالدرجة الأولى. وهذا التيار قد يحتوي على عناصر متطرفة ومعادية لليهود كيهود: أي ما يدعى بمعاداة السامية. وقد رفعوا شعارات أصولية أزعجت التيار العلماني في المظاهرة سواء أكان عربيا أم فرنسيا. وهناك جناح ثالث فرنسي محض يضم الحزب الشيوعي ونقابات اليسار واليسار الأقصى. هؤلاء هم الذين نزلوا إلى شوارع باريس وغيرها من المدن الفرنسية دفاعا عن الحرية، وعن غزة الجريحة.

وأخيرا، لا ينبغي أن ننسى أن العامل المهاجر يتظاهر ولسان حاله يقول: أنا هنا مضطهد ومذلول كالفلسطيني في فلسطين! والواقع أن الكثيرين من المغاربة ينزلون إلى الشارع بمثل هذه العقلية والنفسية. فمن يستطيع أن يلومهم؟. أليست تلك حقيقة واقعة؟.