لمن تُقرع الأجراس؟

TT

بالطبع لست هنا لكتابة رواية على غرار ارنست همنغواي. ولكني أرى أنه عندما تقول تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية عشية الحرب على غزة إن الطموحات القومية لعرب 48 مكانها في غير إسرائيل، بل في ظل الدولة الفلسطينية الموعودة. عندما تقول ليفني ذلك، فإن المشهدَ يبدو قاتماً. أليست تلك دعوة واضحة لتحقيق مقولة «الترانسفير» لترحيل العرب داخل الخط الأخضر إلى خارج هذا الخط، سواءٌ كان هذا الخارج هو الخارج المباشر لهذا الخط (الضفة وغزة) أو كان هذا الخارج هو الخارج البعيد نسبياً عن هذا الخط؟ (الأردن ومصر).

وعندما يقرر جون بولتون في مقال له في «واشنطن بوست» أن حل «الدول الثلاث» هو الحل المنطقي والقابل للتحقق لمشكلة الشرق الأوسط، والدول الثلاث هي حسب رأيه إسرائيل والأردن (الذي سيضم الضفة الغربية) ومصر (التي ستضم قطاع غزة). عندما يصدر مثل ذلك الرأي عن رجل مقرب من دوائر صنع القرار في البيت الأبيض، بل عن رجل هو جزء من تلك الدوائر في واشنطن، فإن المشهد يبدو أكثر قتامة. هل تريد ليفني أن ترحل فلسطينيي 48 وتبعدهم عن حدودها إلى جهة تعلمها ليفني ودهاقين السياسة الإسرائيلية. ويريد بولتون أن يرحل الدولة الفلسطينية الموعودة بأكملها إلى كل من الأردن ومصر. وفوق ذلك، عندما يصل الأمر إلى أن يصرح ملك الأردن بأنه قلق من وجود مؤامرة تحاك ضد الشعب الفلسطيني، فإن ذلك يعني أن الأردن الرسمي ليس قلقاً فقط على الدولة الفلسطينية التي لم تولد بعد، ولكن قلقه الأكبر هو على الدولة الأردنية القائمة فعلاً لأن مبعث قلقه هو ما ذكره بولتون من حل «الدول الثلاث» القائم على الحل القديم في فكرة «الوطن البديل» كبديل واقعي لحل الدولتين، في ظل رفض حل الدولة الواحدة ثنائية القومية من قبل الطرفين. عندما يخرج الملك الأردني عن ترك التصريحات لغيره من المسؤولين بالحكومة ويباشر القول بنفسه، وعندما تُربط تصريحاته بتصريحات رئيس وزرائه الذي لمح إلى إمكانية إعادة النظر في العلاقات الأردنية ـ الإسرائلية، فإن رأس جبل الجليد الذي ظهر من خلال تصريحات رئيس الوزراء يشير إلى ضخامة الجزء المغمور من هذا الجبل المتمثل في تصريح الملك نفسه. كل الدلائل تسير في اتجاه عدم الرغبة الإسرائيلية في قيام الدولة الفلسطينية، وكل الوقائع على الأرض تشير إلى استحالة هذا الحل الآن وفي ظل المعطيات الجغرافية والديموغرافية التي سعت إسرائيل إلى تكريسها على الأرض. أدنى نظرة إلى خريطة ما تبقى من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 تصدق النتيجة السابقة. هذه الأراضي غير متصلة وتحاصرها المستوطنات من كل اتجاه وتزيد تعقيداتها مسألة القدس ووضعها الديني وحكايات أرض الميعاد وهيكل سليمان والبحث المستميت في أكوام التراب عن دليل تاريخي يشير إلى مملكة إسرائيل القديمة. كل ذلك، بالإضافة إلى أن جوهر الصراع العربي ـ الإسرائيلي يمكن أن يختصر إلى صراع على القدس والسيادة عليها يزيد من قوة الاعتقاد السائد بوجود نية إسرائيلية للتملص من حل الدولتين، وترك الفرصة لعامل الوقت لإنضاج حل آخر لدى العرب والفلسطينيين. هل خططت إسرائيل ـ إذن ـ لانفصال الضفة الغربية عن قطاع غزة إلى طلاقهما الأبدي الذي يهيئ أهل الضفة لحمل الجوازات الأردنية في الوقت الذي تصبح فيه غزة مديرية من مديريات شمال سيناء؟ ألم تسع إسرائيل بحصار غزة وإحكام الطوق عليها لفصلها عملياً عن الضفة الغربية؟

هل تدفع إسرائيل ـ إذن ـ بالأحداث في اتجاه فرض حل «الدول الثلاث» على الدول العربية؟ مستغلة نفوذها الكبير لدى دوائر صنع القرار في عدد من العواصم الغربية؟ هل يمكن أن نفهم ما يجري في غزة على أنه نوع من إعاقة إمكانية قيام كيان سياسي على أرضها تمهيداً لتسليمها أو قذفها إلى مصر وهي رغبة إسرائيلية غير خافية. وهل يمكن فهم الحرب على المدنيين في غزة أنه يأتي في سياق الضغط باتجاه القبول بقوات دولية في حال صدور قرار من مجلس الأمن بذلك؟ تصوروا مرور الأيام والسنين على غزة تحت الحماية والرقابة الدولية بينما الضفة تحت الرقابة والاحتلال الإسرائيلي لحين تهيئة الظروف الدولية والنفسية بالنسبة للفلسطينيين لحل «الدول الثلاث» المتمثل في فصل عاصمة الدولة الفلسطينية في القدس عن مينائها بغزة، وبالتالي ذوبان وغرق هذه الدولة في نهر الأردن من جهة وغرقها في رمال سيناء من جهة أخرى. هل يخطط الإسرائيليون إلى رمي غزة في الرمل بدلاً من رميها في البحر كما حلم رابين ذات مساء؟

من ناحية أخرى: هل استشف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن شيئاً ما يطبخ عندما رجع إلى بلاده غضبانَ من التصرفات الإسرائيلية اسِفاً على الفلسطينيين بغزة؟ ماذا تعني إشاراته للتاريخ العثماني، وأنه يحكم دولة من أحفاد العثمانيين على ما للعثمانيين والمسلمين عامة من علاقة وُثقى بالقدس؟ هل استشف أردوغان، وهو السياسي المحنك، أن ثمة أشياءَ تطبخ للقدس على نار «هادئة» في كل من واشنطن وتل أبيب في الوقت الذي تطبخ فيه هذه الأشياء على نار «حامية» في غزة؟ ترى ما الذي أثار صقر الأناضول إلى هذا الحد غير المعهود؟ هل أثارته مشاهد الدماء في غزة ـ وهي جديرة بذلك ـ أم أنه غضب لذلك ولأشياء أخرى في نفس أولمرت وليفني؟ ثم هل تكفي هذه المؤشرات وغيرها للفت الانتباه إلى الغيوم الكثيرة التي ربما بدأت بالتجمع فوق بحيرة طبريا، والأعاصير الأكثر القادمة من صحراء النقب؟ وبكلمة واضحة: ألا تبعث تلك التساؤلات على تساؤلات أخرى حول مصير «حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة»، وهل دوي الانفجارات بغزة ما هو إلا قرع لأجراس لما هو أسوأ من هذه الحرب البشعة على شعب أعزل؟

قناعتي أن المستقبل مشوب بالغموض، ولكن: هل سيتمكن «أولاد حارتنا» من استيعاب الدروس ومعرفة «لمن تقرَعُ الأجراس؟».

* كاتب يمني مقيم في بريطانيا