متى يعلنون يقظة العرب؟!

TT

خلال أزمة غزة الراهنة، كما جرى في أزمات أخرى سابقة في مناطق عربية متفرقة، جرى استدعاء تساؤل الشاعر نزار قباني عن «متى يعلنون وفاة العرب؟»، وكان الإعلان، كما كان الاستدعاء، نوعا من الاستنكار والاستهجان للأحوال العربية وما تبدو عليه من عجز وقلة حيلة إزاء أحداث جلل. ولأن التساؤل حاد وفيه رائحة الموت في لحظة تراجيدية فإنه نادرا ما جرى فحصه هو ووضع المقدمات التي قام عليها موضع التساؤل أيضا، بل جرى التسليم بما جاء فيه باعتباره نوعا من البديهيات التي لا يصح السؤال عنها. فالكلمة المحورية في السؤال هي «العرب» ويكمن وراءها افتراض جوهري بوجود أمة واحدة وموحدة تحركها أهداف سياسية واحدة، ومن ثم فإنه ساعة الكارثة لا بد أن يتداعى الجميع إلى ساحة الوغى لتقديم الفداء والتضحية. ولا تختلف الحالة الراهنة من كارثة في غزة عن كل الكوارث السابقة حيث يفترض بغض النظر عن نقطة البداية، وعما إذا كانت هناك استراتيجية من نوع أو آخر، أن يلبي «العرب» نداء حماس من أجل مواجهة العدو الصهيوني الذي يقوم بالهجمة البربرية على الشعب الفلسطيني.

هنا فإن طارح السؤال ليس بغافل أبدا عن حقيقة وجود 22 دولة عربية أعضاء في جامعة الدول العربية، وبعضهم يوجد ضمن الإطار الاستراتيجي لغرب البحر الأبيض المتوسط على بعد مضيق (جبل طارق) من أوروبا، والبعض الآخر لشرق البحر ذاته حيث آسيا على مرمى البصر، والبعض الثالث متمدد حول حوض وادى النيل والبحر الأحمر في الطريق إلى أفريقيا، والبعض الرابع يجلس على شاطئ الخليج حيث آبار البترول واقعة في أحضان اللآلئ والفوائض وخطوط الانفصال والاتصال بين السنة والشيعة، والعرب والفرس، ومن ورائهم المحيط الهندي. ومن المؤكد أن الطارح للسؤال يعرف أن الدول العربية مرت بمراحل مختلفة من التطور والاستقلال والحداثة والتقليدية، ولديها من القدرات والطاقات والثروات والسكان ما اختلفت فيه وتباينت وزنا ومقدارا وعددا ومساحة. وبوسع كل ذي ذكاء أن يشكل من كل ذلك وأضعافه من التركيبات والمصفوفات ما يجعل من تلك الحالة النفسية المتباينة لجماعة «العرب» ما يكفي لكي توضع درجات ناعمة من الارتباط والتواصل بين الشعوب العربية في حجمها الصحيح بحيث لا تطغى أو تجور على مصالح وارتباطات لا يمكن فصمها فورا ساعة النداء.

ومع ذلك فإن إعلان «وفاة العرب» يظل مطروحا لأن هؤلاء العرب لم يقوموا فورا بالعملية الانتحارية المراد منهم القيام بها بالتضحية الفورية بمصالح شعوبهم ووضعها على مقصلة جماعات ثورية وراديكالية لم تضع أبدا مصالح شعوبها موضع الاعتبار. فلم يسمع أحد أبدا عن سياسات جماعة حماس إزاء التعليم، ولا عرف أحد أبدا خطط حزب الله لإعادة تخطيط الجنوب اللبناني عمرانيا، ولا كان معلوما ولا مفهوما في يوم من الأيام ما الذي تريده أنظمة ومنظمات راديكالية وثورية غير استمرار عمليات نضالية وجهادية وثورية واعتبارها المهمة الأولى للدول والأمم والشعوب. وبشكل من الأشكال فإن الحديث عن النمو والتنمية والمنافسة العالمية وبناء المؤسسات تعتبر فورا نوعا من الرخاوة السياسية، والضعف الإنساني والأخلاقي الذي يبشر بحالة من النهاية تجرى المطالبة بتحويلها إلى إعلان وفاة كنوع من الدعاية والهجوم السياسي على كل ما هو معتدل وعاقل وباحث عن دعم عناصر القوة لدى الدول العربية.

وفي كل مطالعة لأحداث السنوات العشرين الأخيرة وحدها، فضلا عن مائة سنة قبلها، فإن الراديكالية العربية كانت تخرج من مأزق لكي تدخل في مأزق آخر وفي كل مرة فإنها تصرخ طالبة من الدول العربية الأخرى النجدة والتدخل لإنقاذها. وعندما هاجم صدام حسين إيران، وكان ذلك قبل أن تصبح طهران المقصد المقدس للراديكالية العربية الإسلامية والقومية، لم يلبث أن طالب العرب الآخرين بالعون والنجدة لأنه يقوم بحماية «البوابة الشرقية» للوطن العربي التي لم يفوضه أحد بحمايتها. الطريف بعد ذلك أنه ترك البوابة الشرقية وأعلن عن نيته في إحراق نصف إسرائيل واتجه بعدها إلى غزو الكويت؛ تماما كما دخل حزب الله الحرب مع إسرائيل وبعد تدمير بيروت ولبنان جرى نفس الخطاب عن أخطاء الحسابات ومحاولات تعويضها بالبناء والتعمير، وانتهى الأمر بالحزب بالقيام بالغزوة لبيروت ووضع اللبنانيين جميعا تحت سيف الحرب الأهلية أو هيمنة حزب الله. وكانت القصة بحذافيرها هي التي نفذتها حماس بتلك القسمة الثورية بين المشروع «الوطني» والمشروع «الأمريكو صهيوني» وانتهى بها الأمر إلى غزو والاشتباك في حرب مع إسرائيل يقف بعدها العرب بعد ذلك تحت تهديد إعلان وفاة العرب.

والملاحظ في هذه المسيرة الثورية أنها نجحت دائما في تحقيق الهزائم للعرب منذ عام 1967 وحتى الآن من ناحية، ولكنها وللحق وضعت بقية العرب جميعا موضع الدفاع الأخلاقي والسياسي. بل إن كثيرا من العرب المعتدلين والذين يعرفون للشعوب والسياسة قيمتها ظلت تجاري هذه النوبات الثورية في الخطاب وأحيانا الفعل، ولا يمكن تفسير موقف الكويت قبل الدرس العراقي، أو موقف قطر الآن، إلا بهذه الممالأة والمسايرة لآيدلوجيات وأفكار خاسرة. وخلال السنوات الأخيرة فإن هذه المسيرة ذاتها أعطت معنى واحدا لكلمة «العرب» حيث باتت لا تعني كل العالم العربي وإنما دولتين تحديدا هما مصر والمملكة العربية السعودية حيث حصلتا معا على النصيب الأكبر من الهجوم «الثوري» باعتبارهما العقبة الرئيسية أمام الهجوم الثوري من أجل تقسيم وتفتيت المنطقة العربية، حتى ولو كانت مصر هي محور العمل من أجل «المصالحة» الفلسطينية، ولو كانت الرياض هي التي صاغت إعلان مكة. فالحقيقة أن الراديكالية الفلسطينية سواء حملت راية حماس أو أنواع أخرى من الجهاد الإسلامي، أو حملت راية جبهات شعبية لها فروع ديمقراطية وقيادات عامة وخاصة، لا تريد تحديدا تحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطينية حرة ومستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

وبالطبع فإن الثمن كان فادحا في كل الحالات، والانتقال من كارثة إنسانية إلى أخرى كان واقعا في كل الحالات، والاستغلال الإسرائيلي عالميا وإقليميا للحماقات الثورية العربية جرى بلا حدود؛ وفي كل مرة كان الموقف العربي رثا في المحافل الدولية والأمم المتحدة وهو يحاول أن يشرح للعالم ما لا يشرح. وخلال الأزمة الأخيرة أشفقت كثيرا على السيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، وهو يهدد مجلس الأمن بفقدان المصداقية أمام العالم لأنه لا يصدق على القرار العربي المطالب بوقف إطلاق النار. ولم يكن يهم الأمين العام ولا الجامعة أبدا المصداقية العربية في التعامل مع موقف تتحمل فيه إسرائيل مسؤولية الاحتلال والعدوان، ولكن جماعة حماس تتحمل هي الأخرى مسؤولية ضعف وأخطاء الحسابات وتقسيم فلسطين وعزل القضية الفلسطينية في العالم، وفي النهاية شن الحرب السياسية على مصر وإنهاء الهدنة.

ولكن كل ذلك لن تتم مقاومته ووقفه ما لم يعلن أحد «يقظة» العرب ضد أكبر عملية تزييف للوعي العربي وقيادته معصوب الأعين إلى كل موارد التهلكة. وهي عملية ليست دعائية وإنما سياسية في المقام الأول حيث كفي العرب الاستسلام الأخلاقي والسياسي لمجموعة من المغامرين والمقامرين بأرواح الشعوب، والعاجزين عن التحرير وحتى عندما يحدث فإنهم سرعان ما يفرطون فيه ويحولونه إلى احتلال. ولكن إعلان اليقظة ضد المنظومة الفكرية الراديكالية لا يكفي وحده ما لم تكن هناك منظومة أخرى أكثر فعالية ليس فقط في التعامل مع مشكلات وأزمات العالم العربي من أول العراق وحتى موريتانيا، ولكن من جانب آخر لديها القدرة على ترقية الدولة العربية وإنضاج أولوياتها الخاصة بالنمو والتنمية. ولعل ذلك هو بيت القصيد، فالراديكالية العربية تعيش على تواضع النتائج في هذه المنظومة من ناحية، وتعمل على عرقلتها إذا ما حدثت من ناحية أخرى. ولا يمكن فهم عمليات حماس وقسمتها لفلسطين في إطار الصراع الفلسطينى الإسرائيلي وحده، وإنما أيضا في إطار إعاقة بناء المؤسسات الفلسطينية التي هي حجر الزاوية في بناء الدولة. وللأمر تفاصيل كثيرة.