كلّهم مع غزة.. فَمَنْ مع «حماس»؟

TT

الملاحظة اللافتة، أن كل المظاهرات التي انطلقت في مختلف أنحاء العالم، أعلنت وقوفها إلى جانب أهالي غزة، لم تكن هناك من يافطة تقول: إنها مع «حماس». بوعيه أو لا وعيه، لا يستطيع إنسان يؤمن بالسلام بين الشعوب أن يدعم حركة تستهدف المدنيين، أقدمت عندما سادت سلطتها على «تطهير» غزة من كل مناوئيها السياسيين.

لم يحمل المتظاهرون صور خالد مشعل أو إسماعيل هنية، لقد رُفعت صورة لجمال عبد الناصر في إحدى مظاهرات لندن، على الرغم من أن عبد الناصر قومي عربي، و«حماس» عكس ذلك.

الملاحظة الثانية، أن إيهود أولمرت (رئيس وزراء إسرائيل) وتسيبي ليفني (وزيرة الخارجية) كانا في حكومة آرييل شارون عندما قررت الانسحاب الأحادي من كل غزة عام 2005، اليوم هما على رأس الحملة العسكرية ضد غزة. خالد مشعل الزعيم السياسي لـ«حماس» قال في خطابه مساء السبت من على شاشات التلفزيون السوري، إن العملية ضد غزة أنهت آخر أمل في السلام. وهناك كثيرون يقولون، وباعتراف قادة «حماس» الذين يرفضون العملية السلمية، إن «حماس» لعبت الدور الرئيسي في تدمير كل أمل في السلام، عندما بدأت العمليات الانتحارية في نيسان (أبريل) عام 1994. وإن هذه العمليات كانت من أسباب بناء الجدار الخانق. أراد مشعل في خطابه تقليد السيد حسن نصر الله أمين عام «حزب الله»، ومساء الاثنين بدأ إسماعيل هنية في الدعاء والتضرع، كأنه يريد أن يسحب البساط من تحت الشيخ يوسف القرضاوي، الذي جلجلت دعاءاته في خطبة يوم الجمعة الماضي، لكن هنية، في وسط دعاءاته، مرر استعداده الموافقة على وقف لإطلاق النار، عكس مشعل، الذي قال إنه يتألم لسقوط الأبرياء من الفلسطينيين، إنما المعركة تتطلب تضحيات. كشف خطاب هنية عن أن هناك انقساما في قيادة «حماس»، وكان الانقسام بدأ عبر توجه وفدين من «حماس» إلى القاهرة يوم الأحد، حيث ظهرت خلافات حادة في موقفيهما. أبلغ رئيس الاستخبارات المصرية اللواء عمر سليمان أن اتفاق وقف إطلاق النار يتطلب وضع آلية تمنع تهريب الأسلحة والصواريخ عبر الأنفاق إلى غزة، كما يفرض إجراء «حماس» مفاوضات سياسية مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. في هذه الأثناء، كان أهالي غزة المنكوبين يتساءلون، عبر شاشات التلفزيون، متى يأتيهم وقف إطلاق النار.

وفد «حماس» الممثل لمشعل عاد إلى دمشق، لنسمع بعدها أن نائب الرئيس الإيراني حسين دهقان طلب من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أن يشجع «الدول العربية» لعقد اجتماع عاجل لبحث الهجوم الإسرائيلي على غزة. وكأن الدول العربية جالسة تتفرج. ومن ثم ليطل بعد ذلك رئيس الوزراء القطري وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم، ويدعو إلى اجتماع لوزراء خارجية الدول العربية، لبحث مأساة غزة (تدرج بعد ذلك ليصبح دعوة لعقد قمة عربية) وليطلب «عدم التدخل في الشأن الفلسطيني».

ترى إيران، أنها عبر «حماس» والمزيد من الضحايا في غزة، ستجبر مصر على الانصياع وفتح معبر رفح من دون شروط والتزامات. سورية تريد عقد مؤتمر قمة عربي، بمن حضر، لسحب الورقة الفلسطينية من مصر. قطر الوسيط، محرجَة أو متجاهَلة، منافستها للسعودية دفعتها إلى مغازلة سورية، وإرضاء إيران، وتسويق «حماس». ثم: «إذا كان هناك من موقف عربي واحد مماثل، فستغلق هي المكتب التمثيلي الإسرائيلي في الدوحة». هكذا قال رئيس الوزراء، وزير الخارجية القطري.

تعرف إيران وسورية أن هزيمة «حماس» في غزة ستضعف موقفيهما في المستقبل مع الإدارة الأميركية الجديدة وفي المنطقة بشكل عام. ثم إن إقامة أغلبية قيادة «حماس» في دمشق ليست مجانية، والتمويل الإيراني لـ«حماس» ليس من دون مقابل. وقول هنية في السابق: «إن إيران تمثل العمق الاستراتيجي للفلسطينيين»، وقول مشعل: «إن دور إيران في مستقبل فلسطين يجب أن يستمر ويتضاعف»، جاء الوقت لتطبيقهما ولو كلف ذلك التضحية بآلاف الغزاويين.

على كل، على الرغم من الدماء والدمار والتشنجات، فإن أصواتا ترتفع في أميركا وإسرائيل وبعض الدول العربية تطالب بضرورة الحوار بين إسرائيل و«حماس». وتدعو هؤلاء القادة في «حماس» وإسرائيل، لا ليكونوا شجعانا، إنما براغماتيون لحل مشاكلهم.

يقول لي مفكر بريطاني: إن المسألة اليوم ليست ميثاق «حماس» الذي لا يعترف بوجود يهود أو مسيحيين في فلسطين، المسألة اليوم أن هناك فلسطينيين يقتلون يوميا، وإسرائيليين يعيشون في رعب من الصواريخ، ومسيحيين يهاجرون.

دول كثيرة في العالم تطالب «حماس» بالتراجع عن موقفها الرافض لحق إسرائيل في الوجود. الذين يعرفون «حماس» يقولون إنها لن تقدم على ذلك بسبب تجربة «فتح». لقد وقعّت «فتح» على اتفاقية أوسلو التي تطلبت منها الاعتراف بإسرائيل، فكانت النتيجة فوضى، ودولة منقسمة «ولسنا أحرارا في تقرير حياتنا». وقال لي أحد العارفين إنه خلال لقاءاته مع قادة «حماس» أدرك أنهم يعتبرون الاعتراف بإسرائيل يأتي في نهاية العملية، وليس كنقطة البداية، ويعطون مثلا: لو أن رئيسا وزراء بريطانيا طوني بلير أو جون ميجور، وضعا الحوار مع الجيش الجمهوري الأيرلندي وجناحه العسكري «الشين فين» كنقطة البداية، ما كانا قد توصلا إلى شيء، في أيرلندا الشمالية. ثم إن بلير عندما تحدث مع المعتدلين هناك لم يتوصل إلى شيء، فقط عندما تحدث مع المتطرفين من البروتستانت والكاثوليك توصل الجميع إلى عملية سلام ناجحة. ويقولون إن بريطانيا عاشت تحت رعب قنابل الـ«شين فين» أكثر من عشرين عاما، ولم تشن غارات جوية مدمرة على أيرلندا الشمالية.

الأسبوع الماضي نشرت صحيفة «الغارديان» تقريرا جاء فيه أن فريق إدارة الرئيس المنتخب باراك أوباما يفكر في فتح قناة اتصال مباشر أو غير مباشر مع «حماس»، مثلا عبر وكالة الـ«سي. آي. اي» كما جرى في زمن ياسر عرفات. يقول ديفيد آرون ميللر الذي عمل مع إدارة الرئيس بيل كلينتون: «إن الحوار مع «حماس» قد يكون جزءا من استراتيجية تشمل مصالحتها مع «فتح» ومع انضمام الإسرائيليين. ويضيف: «إن حوارا بين أميركا و«حماس» قد يكون مهما وضروريا، لكن إذا جرى الآن، فإنه سيزعزع وضع محمود عباس، ويتجاوز الإسرائيليين، وأعتقد أنه مع أولويات أوباما الاقتصادية، فإن مثل هذا الحوار سيهز وضع الرئيس السياسي». من هنا يرى آرون ميللر أن فرصة أن يبدأ أوباما حوارا مباشرا أو غير مباشر مع «حماس» غير متوفرة. ويوضح ردا على سؤال بأن أوباما قال إنه سيجد طرقا لفتح حوارات مع أعداء أميركا! «المشكلة أن أعداء أميركا نوعين: دول مثل إيران وسورية، ومنظمات مثل «حزب الله» و «حماس». ليس لأميركا سجل في التعامل مع منظمات ليست دولا، خاصة عندما تكون هذه المنظمات في صراع وعداء مع حلفاء وأصدقاء أميركا. ويضيف آرون ميللر: «أعتقد أن أوباما قصد في استعداده للتعامل مع أعداء أميركا البدء في حوار جدي مع إيران (أكد ذلك أوباما يوم الأحد في مقابلة مع تلفزيون اي. بي. سي) وهذا ما سيفعله، وأيضا توسيع علاقات أميركا مع دمشق».

وشرح عمق المشكلة، بأن البيت الفلسطيني مقسوم، ولا يمكن لعملية السلام أن تتقدم ما لم يكن هناك بندقية فلسطينية واحدة، وسلطة واحدة وفريق مفاوض واحد، وما لم تكن هناك سياسة فلسطينية موحدة، فلن يكون هناك حل للمشكلة الفلسطينية-الإسرائيلية. ويضيف: «لست متأكدا أن أحدا في لندن أو واشنطن أو القاهرة أو تل أبيب أو غزة لديه جواب الآن».

لا بد أن هناك معتدلين في «حماس»، يدركون أن أي حل في الشرق الأوسط يستدعي تدخلا أميركيا. إن سورية تعرف ذلك، وتنتظر وصول الإدارة الجديدة لتستأنف اتصالات مباشرة مع إسرائيل. هي «علقت» المفاوضات ولم تقل إنها قطعتها. إيران تعرف ذلك أيضا، تنتظر وصول أوباما وقد تقابله برئيس إيراني جديد. البروباغندا الإعلامية لا تسمن ولا تغني من جوع. القضية الفلسطينية يجب ألا تنتهي، ورقة تستغلها إيران وسورية لدعم حججهما بأنهما الدولتين القادرتين، إما على توفير الحل، أو على نشر الرعب واللااستقرار. قد تكون هذه فرصة لإسماعيل هنية أو محمد نزال، حتى خالد مشعل قد لا يمانع. إن الشعب الفلسطيني في غزة هو من يموت وتدمر بيوته. كل من تظاهر عاد إلى بيته لينام في سريره مطمئنا للأمن الذي توفره له دولته، أو الدولة التي يعيش فيها.آن لأطفال غزة أن يذهبوا إلى المدارس، ويرتدوا ملابس نظيفة ودافئة، ويأكلوا طعاما طازجا. إن السلام ليس هزيمة، إنه المستقبل، والأولى بالمعتدلين في «حماس» أن يتضرعوا كي يمنحهم الله الحكمة والجرأة على اتخاذ قرار شجاع ينقذ شعبهم، فهذا الشعب انتخبهم على أساس أنهم سينقذونه من فساد «فتح» ،ويؤمنون له حياة كريمة، لا أن يرموا به في حرب غير متكافئة، ثم إن فلسطين تستحق مصالحة وطنية.