زعيب خرّاب اللعيب

TT

لقرون طويلة، استمتعت البشرية بشتى الأحلام الأرجوانية الوهمية. استمدت منها البهجة والهمة والحكمة والإيمان والصبر. من أروع هذه الأحلام وأقلها أذى وعدوانا وأكثرها محبة وإشراقا، فكرة وجود، بابا نويل، القديس الذي يحمل الهدايا لملايين الأطفال في العالم المسيحي. لا شيء في الدنيا يجلب المسرة لقلوب الأطفال أكثر من أن يضعوا خدهم على المخدة ليلة الكريسماس ويحلموا بما سيأتيهم به بابا نويل خلال نومهم. يستفيقون صباحا فيجدون الدراجة والألعاب والحلويات وكل ما تفضل به عليهم. تمر السنوات ويذهب الطفل للمدرسة فيسمع من الكبار أن بابا نويل خرافة وأن ما تلقاه من هدايا اشتراها له والده بعرق جبينه. هذه أول نكبة وخيبة عظمى يواجهها الإنسان في حياته: إدراك أنه لا تحصل على شيء بدون الكد والتعب والشقاء. تبدد ذلك الحلم الكبير. ولكن بعض الأطفال يظلون على إيمانهم بوجود بابا نويل. ويرى علماء النفس أن الطفل الذي يبقى متشبثا بهذا الوهم أكثر من غيره من الأطفال سيتميز بروح التفاؤل والنفسية المشرقة.

لهذا الحدث دوره في المدارس ورياض الأطفال. ينشغلون لعدة أيام بوجود بابا نويل وهداياه. هل هو موجود فعلا؟ هل سيأتي ليلة الكريسماس؟ ماذا سيحمل لي؟ هل سيأتيني بما طلبته منه؟ حكايات وطرائف كثيرة. سأل معلم طلابه، ماذا تعتقدون هويته؟ قال واحد إنه فنلندي. لماذا؟ لأنه يتنقل بمزلجة. قال آخر إنه ألماني. لماذا؟ لأنه يحمل لنا دائما بنادق ورشاشات هدايا. قال ثالث إنه صيني. لماذا؟ لأن كل هداياه مكتوب عليها «صنع في الصين». قال رابع إنه آيرلندي. لماذا؟ لأن لبيتنا ثلاثة أبواب وسبعة شبابيك ويصر على أن ينزل من المدخنة. (قفشة على الآيرلنديين!).

يستمر هذا الكلام اللذيذ. بيد أن إحدى المعلمات شاءت أن تبدد كل هذه السعادة والبشر بأن قالت للأطفال: كلا. لا وجود لبابا نويل. إنه مجرد خرافة. وتركتهم يعودون لبيوتهم يتباكون أسفا وخيبة. أثارت غضب عوائلهم في موجة من الاحتجاج اضطرت السلطات إلى طرد تلك المعلمة. سماجة وقلة ذوق. زعيب خرّاب اللعيب.

إنني أضع على نفس المستوى المقالة التي نشرتها صحيفة «الغارديان» ليلة الكريسماس للكاتبة بولي توينبي بعنوان «الإله لا وجود له» هذا موضوع فلسفي وفكري شغل الفلاسفة والمفكرين منذ آلاف السنين. المفروض فيه أن يبقى في ذلك الإطار والظروف المناسبة له. ليلة الكريسماس ليلة مقدسة عند ملايين المسيحيين وهم يستعدون لدخول الكنائس بقلوب خاشعة ويعيشون واقعة ولادة السيد المسيح عليه السلام، يرتلون ويستمعون للوعظ والصلوات ويجدون أمامهم هذه الجريدة المحترمة تشكك وتزعزع كل ما آمنوا به وجاءوا للكنيسة للاحتفال به. لماذا اختارت توينبي هذه الليلة بالذات لنشر مقالتها؟ أقل ما أقوله فيها هو نفس ما قلته بشأن تلك المعلمة التي طردوها. هل سيطردون بولي توينبي على هذه السماجة وقلة الذوق؟

www.kishtainiat.blogspot.com