عام مادوف

TT

بالنسبة لأي شخص يفكر في عام 2008، سيكون باراك أوباما حتما هو شخصية العام. لكن لم يكن أوباما الأميركي الوحيد الذي توحي قصته بأن هذا العام المفعم بالأحداث الدراماتيكية التي لا يمكن نسيانها سيشكل علامة فارقة بين حقبتين تاريخيتين كبريين، أو خطاً مضيئاً فاصلاً بين الأمس والغد. ومن جانبي، أرى أن برنارد مادوف الرجل الثاني بعد أوباما مباشرة.

وبصورة ما، نعد جميعاً بطريقة أو أخرى تجسيدا لبرنارد مادوف، فقد أدرنا شؤوننا الاقتصادية على امتداد جيل بأكمله طبقاً للمبادئ المحاسبية التي أرساها ـ ونقف الآن في مواجهة عملية تسوية حساب بغيضة.

وكما يعرف الجميع الآن، يواجه مادوف ـ الذي كان في يوم من الأيام أحد أبرز الممولين في وول ستريت، وكان يحظى باحترام وتقدير بالغين ـ اتهامات بما قد تشكل أكبر عملية احتيال في التاريخ. قبل إلقاء القبض عليه الشهر الماضي، يُقال إن مادوف أخبر أبناءه أنه احتال على المستثمرين واستولى على ما يصل إلى 50 مليار دولار. ويعتقد أنه اتبع التعليمات التي كتبها منذ ما يزيد على ثمانية عقود المحتال الأنيق تشارلو بونزي، الذي استغل الأموال التي حصل عليها من مستثمرين جدد لدفع عائدات ضخمة للمستثمرين القدامى. بيد أن هذا المخطط قد يسير على نحو جيد لبعض الوقت، وفي النهاية ينهار.

ويسترجع الخبراء في وول ستريت كيف كان المستثمرون يتوسلون ليسمح لهم باستثمار أموالهم لدى مادوف.

وعلى خلاف الحال مع بونزي، لم يعد مادوف المستثمرين بتوفير عائدات ضخمة في وقت قياسي، وإنما عمد إلى منح المستثمرين 1 أو 2 في المائة شهرياً، سواء كانت أسعار الأسهم مرتفعة أو منخفضة ومهما كانت الظروف. ولأنه لم يفرط في الوعود، وحدّ من دائرة عملائه، تمكن من المضي قدماً في مخططه لعقود.

والتساؤل الذي يشغلني كم منا كان يتابع أسعار المنازل وهي ترتفع بصورة بالغة في قفزات أشبه بتلك التي كان يحققها بونزي ـ حيث بلغت 10 في المائة أو ما يزيد سنوياً في بعض المناطق ـ في الوقت الذي ظلت فيه دخول الطبقة الوسطى جامدة بدرجة كبيرة. كم منا توقفوا للحظة ليتساءلوا من الشخص الذي يُفترض أنه سيتمكن من دفع مليون دولار مقابل منزل بإحدى الضواحي، وحتى لو كان منزلا على أحدث طراز؟

ويعني ذلك، الدخول إلى السوق والحصول على عائدات والخروج قبل أن ينهار الأمر برمته.

ولا يعني قولي هذا أن الأميركيين العاديين يستحقون اللوم تماماً مثل وول ستريت في هذه الأزمة المالية والاقتصادية، ذلك أن الخطايا التي اقترفناها يمكن غفرانها، بينما كانت خطاياهم قاتلة. وبالعودة إلى مخطط مادوف نجد أنه على الأقل اتسم بطابع مباشر، لكن الأسوأ منه كان خلق أوعية استثمارية ثانوية غير المتداولة ـ والتي اتضح لاحقاً أن قيمتها الحقيقية من المستحيل التحقق منها ـ جرى الشراء والبيع فيها برافعة مالية هائلة. وطالما استمرت قيم العقارات في الارتفاع، لم يكن من المهم القيمة الحقيقية لمثل هذه الاستثمارات الوهمية. بدلاً من ذلك، انصب اهتمام وول ستريت على القدرة على جمع رسوم هائلة من أشخاص حقيقيين بأموال حقيقية مقابل بيعهم كيانات خرافية لا وجود لها.

وبعد انفجار فقاعتي شركات شبكة الانترنت والإسكان، أعتقد انتهينا من الفقاعات لبعض الوقت. ويتمثل التحدي الأول أمام أوباما ـ والذي ربما يستحوذ التعامل معه على جزء كبير من فترة الأولى له في الرئاسة ـ في استعادة نمو اقتصادي ملموس ومستدام. وربما يكون على أوباما أن يشكر مادوف لتقديمه أبسط مثال على حقيقة كنا ندركها جميعاً طوال الوقت، وآثرنا تجاهلها: لا يقدم أحد خدمة من دون مقابل.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ

خاص بـ«الشرق الأوسط»