أذلاء نتيجة لجهلنا

TT

ما نشهده الآن إنما هو انتهاء لحقبة معينة. فكما نعلم جميعاً أن العام 2008 ـ والذي يتشابه إلى حد بعيد مع عامي 1932 و1980 ـ قد وضع حدا فاصلا للتاريخ والاقتصاد الأميركي، لكن ما يجري على الناحية الأخرى ضبابي إلى حد ما. فالدرس الذي أفرزه العام الماضي هو: ضآلة فهمنا وقدرتنا على التحكم في الاقتصاد، وأن هذا الجهل هو ما زاد من عدم الشعور بالأمان الذي نعاني منه الآن.

وإذا ما عدنا بأذهاننا إلى وقت بداية الأزمة في منتصف عام 2007، فمن كان يظن أن مسارعة الحكومة الفيدرالية إلى إنقاذ شركة سيتي غروب أو شركة التأمين العملاقة إيه آي جي، أو أن محاولة البنك الفيدرالي لمنع الانهيار المالي سترتفع إلى أكثر من تريليون دولار في صورة ضمانات جديدة، أو أن يقوم الكونغرس بتخصيص 700 مليار دولار للخزانة من أجل ذات الهدف أو أن توشك شركة جنرال موتورز على الإفلاس؟

لقد ظننت من قبل، أن أزمة الرهن العقاري «عالي المخاطرة» ـ تقديم القروض لمحدودي الدخل ـ ستكون محدودة لأن تلك القروض تمثل 12% من الرهن العقاري المنزلي، ولو أنها كانت طبقت على نطاق واسع لكانت قد خففت من خسائر البنوك والمستثمرين.

كان هناك اعتقاد من قبل بأن بإمكان المستهلكين الأميركيين الاقتراض والإنفاق بصورة أكبر، ولكن إذا ما نظرنا إلى الفترة ما بين عامي 1985 و2005 فسنجد أن معدل المدخرات الشخصية قد انخفض من 9% من الدخل الثابت إلى ما يقرب من صفر، لكن السنوات ذاتها شهدت تضاعف قيمة المنازل الخالصة (الأصول مطروح منها الدين) إلى أربعة أضعاف لتقفز من 14 تريليون دولار إلى 57 تريليون دولار.

كان هناك اعتقاد من قبل بأن باقي العالم سينفصل عن الولايات المتحدة، بيد انه نظراً لأن أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية قد توسعت، فإن شراءها سيخفف من كسادنا، وسيعمل على ظهور عالم أكثر توازناً تنخفض فيه نسبة العجز في الموازنة الأميركية وتنخفض فيه الفوائض في مكان آخر.

لم تعد الأزمة محلية بل تخطتها لتصبح أزمة عالمية، ولذا يتوقع أن ينخفض النمو الاقتصادي العالمي في عام 2009 إلى أدنى مستوياته منذ عام 1980، حتى أن النمو الاقتصادي للصين سيتباطأ هو الآخر، فقد انخفضت صادراتها من الصلب بنسبة 12% في شهر نوفمبر عن العام السابق. لقد امتدت الأزمة في طريقين هما: انخفاض تدفقات النقد وانخفاض التجارة. ولأن الأسواق العالمية متداخلة، فقد أجبر تراجع المستهلكين الصناديق المشتركة وصناديق التحوط على البيع في الأسواق الناشئة (كالبرازيل وكوريا) التي انخفضت أسهمها بنسبة 60% من أقصى قيمة لها. وقد تقلص الائتمان لأنه من المتوقع أن يتقلص تدفق المال إلى الدول النامية بنسبة 50% في عام 2009 عن مستوياته في عام 2007 بحسب تقديرات البنك الدولي. كما توقع البنك أن تنخفض معدلات النمو في التجارة في عام 2009 ولأول مرة منذ عام 1980، بعد أن بلغت أقصى ارتفاع لها في عام 2007 لتصل إلى 7.5%.

الكثير مما حدث لم يكن متوقعاً، فلم يكن يتوقع أن تكون أسباب الانتعاشة والإخفاق مجهولة. لقد كانت تلك الأسباب موجودة بين حنايا الآثار الجانبية للتضخم المالي المتراجع الذي بدأ في عام 1980 وفي عملية خفض معدلات الفائدة، وازدهار أسواق الأسهم وقيمة المنازل.

وإذا ما عدنا إلى عام 1980، في الوقت الذي بلغ فيه التضخم 9% كان الرهن العقاري الذي مضى على ابتكاره 30 عاما يمثل 15%، ونظراً لانخفاض المعدلات (هبط الرهن العقاري إلى 10% بحلول عام 1990 لينخفض بعد ذلك إلى 7% في عام 2001) ارتفعت أسعار المنازل. ومع انخفاض أسعار الفائدة، أصبحت الأسهم أكثر قيمة وأصبح بمقدور الأفراد شراء المنازل.

وقد تزايدت كل العادات السيئة التي وقعت في السنوات السابقة ـ الإسراف في الاقتراض من قبل المستهلكين ومديرو الثروات والإقراض غير المسؤول ـ في مناخ بدت فيه الأرباح أمراً حتمياً، فبعد انفجار «الفقاعة التكنولوجية في عام 2000 كانت أسعار الأسهم في عام 2002 قد فاقت معدلاتها في عام 1981 بسبعة أضعاف، وزادت أسعار المنازل بصورة ثابتة، وارتفعت أسعار المنازل في التسعينيات بنسبة 45%.

غذت الرفاهية، خاصة التسامح بشأن الأخطاء، الرضا الذاتي الذي أفسد تلك الرفاهية. وقد كان يتم تعويض الخسائر الخاصة بالرهون السيئة من خلال بيع المنازل بأسعار عالية. ومن ثم، فقد تم ابتكار القروض السيئة المرشّدة. قد تتراجع قيمة بعض الأسهم، لكن غالبيتها سوف يرتفع بمرور الوقت، ومن المتوقع أن تتراجع نسبة المخاطرة ولذا قام المستثمرون ومديرو الثروات بانتهاج استراتيجيات جديدة.

لكن ما الذي يمكن أن ينتج عن كل تلك الأوهام المحطمة؟ هل سيحرك ذلك الانهيار المفاجئ القلق الاجتماعي في الخارج إن لم يكن في الداخل؟ هل سيصبح الأميركيون اقتصاديين بدرجة تعين انتعاشتهم؟ هل ستزداد الوطنية الاقتصادية؟ كيف سيتم إعادة صياغة الرأسمالية؟ لقد أصبح الكثيرون يعتمدون على ما إذا كانت السياسات المسعورة لمحاربة الركود الاقتصادي ستنجح أم لا؟ ربما تنجح تلك السياسات لكن لا توجد ضمانات لذلك. فجهلنا مخز.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»