من الدلفة.. إلى تحت المزراب

TT

بين حكومة «الرئيس المنتهية ولايته» (محمود عباس) ودستورية «الحكومة المقالة» (إسماعيل هنية) أصبحت الشرعية الفلسطينية - الهشة أصلا - أقرب ما يكون إلى حالة أرييل شارون الصحية، أي في حالة غيبوبة سريرية، قد تتسبب بإطالة أمد مأساة الغزاويين بدون مقابل سياسي يذكر.

مؤسف أن الفلسطينيين، في أحلك ساعات وضعهم، لم يعودوا منقسمين على أنفسهم فحسب، بل على قضيتهم أيضا بين دعاة حل دبلوماسي (واقعي المقاربة، رغم قصوره عن ربط حرب غزة بتسوية شاملة) وحل ثوري (طوباوي الأبعاد، رغم رومانسيته القومية الجذابة).

استمرار الخلافات الفلسطينية في هذه المرحلة الدقيقة في مسار القضية العربية الأولى، ترف قومي مكلف، قد يدفع الفلسطينيون، والعرب جميعا، ثمنه باهظا، ما لم يتداركها العقلاء في جناحي الشرخ الفلسطيني الداخلي، ويسارعون إلى إعادة رص الصفوف، لمواجهة تداعيات العدوان الإسرائيلي المتمادي، بموقف موحد من الغاية السياسية للعدوان على غزة. فرغم أن الغاية العسكرية المعلنة هي وقف إطلاق صواريخ «حماس»، فإن الغاية السياسية التي لا تقل عنها خطورة، تبقى تكريس النظرية الإسرائيلية القائلة بأن «أمن» إسرائيل يمكن أن يفرض أحاديا، وبالقوة المجردة، دون أن يصل ثمنه إلى السعر العربي المطلوب له – أي السلام الشامل الذي حددت قمة بيروت شروطه عام 2002.

من المسلم به في عالم السياسية أن التطرف يولد التطرف. ولا جدال في أن التعنت الإسرائيلي في إنكار حق الفلسطينيين الطبيعي في وطنهم أفرز المزيد من التطرف في مواقف الفلسطينيين من التسوية النهائية لقضيتهم.

بالنسبة للعديد منهم أصبح آخر العلاج.. الكيّ.

ولكن خطورة العلاج بالكيّ تكمن في احتمال تحول نزاع قومي على الأرض إلى حرب «مقدسة» تؤجج نيرانها النعرات الطائفية المتجذرة في أوساط شريحة واسعة من الشعبين. والأخطر من ذلك، أن احتمال الانزلاق نحو مواجهة دينية الطابع، يزداد مع قابل الأيام عوض أن يتضاءل، ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولغاية السنوات الأولى من قيام إسرائيل، كانت التنظيمات اليهودية المنضوية تحت مظلة الحركة الصهيونية، تنظيمات علمانية بأكثريتها الساحقة تقابلها، على الجانب الآخر من النزاع، آيديولوجية قومية عربية أيضا علمانية.

ولكن هذه الخلفية للمواجهة العربية – الإسرائيلية بدأت تتبدل في الستينات: عربيا مع تراجع المد القومي العربي (خصوصا بعد انهيار الجمهورية العربية المتحدة)، ونمو تيارات دينية متشددة أخذت تزايد على الحركات القومية في أحقيتها في تحرير فلسطين، وإسرائيليا مع انتعاش المشاعر التوراتية في أعقاب حرب الأيام الستة، فـ«نشوة» النصر السريع عزز اعتقاد العديد من الإسرائيليين بأن قدرا «إلهيا» سهل عليهم السيطرة على كل فلسطين. فيما الطمع في الاحتفاظ بالسيطرة الكاملة على القدس والضفة والقطاع وكل الأماكن اليهودية المقدسة، جعل التيارات «القومية» تستند أكثر فأكثر على المعتقدات التوراتية لتبرير نزعتها التوسعية والاستيطانية في فلسطين.

وبدوره، ساهم نظام الانتخاب النسبي في إسرائيل في منح المتطرفين الدينيين وغلاة المستوطنين تأثيرا واسعا على قرارات كل الحكومات المشكلة عادة من أقليات حزبية علمانية من حيث المبدأ.. لحاجة هذه الأحزاب إلى أصواتهم للاستمرار في الحكم.

وسط هذا التحول في البعد الآيديولوجي للصراع العربي – الإسرائيلي، فوّت الإسرائيليون فرصتي سلام يصح وصفهما بالتاريخيتين: مبادرة الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، عام 2000، التي «تنازلوا» للفلسطينيين بموجبها عن نحو 98 بالمائة من أرضهم المحتلة ليحبطوها بتشبثهم باحتلال القدس الشرقية، ورفضهم حق العودة للاجئين، ومبادرة قمة بيروت العربية، عام 2002، التي أتاحت لهم فرصة تسوية نهائية مع العالم العربي بأكمله، وقابلتها اسرائيل بالرفض المطلق.

واليوم ُتبرز مأساة غزة المسؤولية المزدوجة لكل من إسرائيل والأسرة الدولية في تجاهل تنفيذ القرار 242 لأكثر من واحد وأربعين عاما وتؤكد، في الوقت نفسه، أنه كلما تأخر الحل النهائي للقضية الفلسطينية، ازداد الوصول إليه تعقيدا.. فباتت تصح في وصف تطوراتها مقولة المثل الشعبي بأنها تنقل «من الدلفة إلى تحت المزراب».