قمة الانقسام العربي.. هل تنعقد؟

TT

لستُ أدري لماذا يكونُ ضرورياً أن تنعقدَ قمةٌ استثنائية بالدَوحة للبحث في الهجوم الإسرائيلي على غزّة، قبل يومين من انعقاد قمةٍ اقتصاديةٍ بالكويت، أعلن القائمون عليها أنها سوف تبحث مسألة غزة أيضاً. والواقعُ أنّه بعد يومين من الهجوم الإسرائيلي المذكور دعت قطر لقمةٍ استثنائيةٍ بالدوحة، وافقتْها وقتَها سورية عليها. لكنّ مجلس وزراء الخارجية العرب الذي انعقد بالجامعة العربية بالقاهرة، قرَّر بالإجماع دعوةَ مجلس الأمن للانعقاد، وسافر وفدٌ من وزراء الخارجية إلى نيويورك بالفعل، وتمكن خلال خمسة أيامٍ من العمل الشاقّ من استصدار قرارٍ من مجلس الأمن بوقْف إطلاق النار. وخلال الأيام الخمسة التي سبقت صدور قرار مجلس الأمن، سارعت جهاتٌ عربيةٌ ودوليةٌ - بينها الرئيس الفرنسي الذي كان يجول بالمنطقة - إلى استبعاد صدور قرارٍ من مجلس الأمن. وعاد الرئيس السوري بشار الأسد للدعوة إلى «قمةٍ عربيةٍ بمن حضر». أمّا رئيس دولة قَطَر فقد قال في كلمةٍ متلفزة إنّ هذا الضعف العربي البادي في عدم القدرة على استصدار قرارٍ بوقْف النار على غزة، عِلّتُهُ التفرُّدُ وعدمُ التشاوُر. لكنْ كيف لم يكن هناك تشاوُرٌ، وقد اجتمع وزراء الخارجية العرب جميعاً، وبينهم رئيس الوزراء وزير الخارجية القَطَري، وهم الذي قرروا معاً وبالإجماع دعوةَ مجلس الأمن للانعقاد. ومع ذلك، وقبل صدور القرار عن مجلس الأمن بيومين، وتحت إلْحاح الرئيس الفرنسي، أصدر الرئيس المصري مبادرةً، بحضور الفرنسي، تتضمن بنوداً لإعادة الوضْع في غزة إلى طبيعته، بالتشاور مع الطرفين المتقاتلَين إسرائيل وحماس. وكان قد مضى شهران على حملات إيران وحماس وفضائية الجزيرة القَطَرية على مصر، والغمز من قناة المملكة العربية السعودية. وقد اشتدّ الهجومُ على مصر بعد الغزو الإسرائيلي، والحجةُ في ذلك أنّ مصر ما فتحت «معبر رفح»، ولذلك فهي تُعتبر بحسب حزب الله وفضائية الجزيرة مشاركةً في حصار غزة واحتلالها! وعلى أيّ حال، وبعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 1860، والذي رفضته إسرائيل وحماس، اعتبر المصريون مبادرتهم بمثابة الآلية لتنفيذ قرار مجلس الأمن، واستقبلوا موفَدين من حماس وإسرائيل وتركيا وألمانيا للتوصُّل إلى حلٍ وسطٍ بين الطرفين يوقِفُ النارَ على غزّة. ولا يزال الإسرائيليون يُصرُّون على أمرين: وقْف صواريخ حماس عليهم، وضمانات على المعابر مع مصر بعدم تهريب السلاح إلى حماس. بينما تُصرُّ قيادةُ حماس على ثلاثة أمور: وقف النار، والانسحاب الفوري للغُزاة، وفتح المعابر. فالمشكلةُ الحاضرةُ الآن: كيف يمكن وَقْفُ النار على شعب غزّة، ما دام الطرفان يتقاذفان بالشروط، ويتفقان على رفض المراقبين الدوليين والقوات الدولية.

بيد أنّ للقمة القطرية حديثاً آخَر. إذ ليس هناك خلافٌ بين مصر من جهة، وقطر وسورية من جهةٍ أُخرى، على طريقة التعامُل مع إسرائيل. بمعنى أنّ قطر وسورية ليستا من دُعاة المُواجهة مع إسرائيل. فمنذ عدة سنوات هناك مكتبٌ تجاريٌّ لإسرائيل بقطر. وبين المسؤولين في البلدين زياراتٌ متبادلةٌ ومنتظمة. وسورية تُفاوضُ إسرائيل سراً منذ أربع سنوات، وصارت المفاوضاتُ غير المباشرة (وبالوساطة التركية) علنيةً منذ عام. ورغم مُضيّ عشرين يوماً على الهجوم الإسرائيلي على غزة، ما تبرعت سورية بالقول إنها لن تفاوض بعد الآن، بل الذي قال بوقْف الوساطة في المفاوضات هو رئيس الوزراء التركي. فما الذي يدفعُ دولةَ قَطَر وفضائياتها لهذه الحملة على مصر؟ أو قبل ذلك: ماذا تُريدُ قطر من القمة، وما هي القرارات التي يُنتظَرُ أن تَصْدُرَ عنها؟ وهل يمكن للذاهبين إلى استثنائية قطر - إذا اجتمعوا - أن يُلزِموا إسرائيل أكثر من مجلس الأمن، ومن المصريين، بوقْف النار؟ والطريف، وذو الدلالات، أنّ الثوريين العرب والإيرانيين هم في العادة ضدَّ القِممَ العربية، بحجة عدم الجَدْوى، وقلة الفائدة: فلماذا هذا الحماس للقمة؛ ولماذا هذا الهجوم على مصر بسبب معبر رَفَح، من دون أن يقولَ أحدٌ منهم شيئاً عن العلاقات بإسرائيل من جانب قطر، ومن جانب سورية؟ ثم إذا كان هؤلاء قد غيّروا رأْيَهُمْ في القمم العربية؛ فإنَّ أمامهم قمةَ الكويت يستطيعون فيها أن يعرضوا وجهة نظرهم أو حتى أن يدعوا للتصويت على قراراتٍ بالمواجهة المختلفة لإسرائيل والولايات المتحدة وعملية السلام المنطوية!

إنّ الواضحَ أنه لا لغزة المسكينة، ولا حتّى للهجوم الإسرائيلي عليها، دَخْلٌ بالمسألة كُلِّها. وإنما هو انقسامٌ داخليٌّ عربيٌّ، اتخذ من مأساة غزّة منصّةً للظهور والتجلّي. فالعلاقاتُ بين سورية من جهة، والمملكة ومصر من جهةٍ ثانية، جافّةٌ وشبه جامدة منذ حوالَي العام إن لم يكن أكثر. ودول مصر والسعودية والأردن واليمن ولبنان، لم تحضُرْ مؤتمر القمة الذي انعقد بدمشق قبل أقلّ من عام. فالمُراد الآن تظهيرُ محور في مُواجهة مصر والسعودية تتزعمه دولةُ قطر، وتنخرطُ فيه لسببٍ أو لآخر دولٌ عربيةٌ لكي يدورَ صراعٌ تكونُ أُولى ضحاياه قمة الكويت، والمزيد من العجز والتهرب في مواجهة المأساة الفلسطينيةُ المتصاعدة، والمشكلات العربية الكثيرة الأخرى. ويذكّرني هذا التسْويغ بتجارة فلسطين في الستينات والسبعينات والثمانينات؛ حينما كانت الدول الكبرى والإقليمية تُثير الانقسامات في صفوف العرب، وضدّ مصر على الخصوص، وقبل كامب ديفيد وبعدها. فبين عامي 1961 و1967 اشتدّ الخلافُ بين مصر وسورية للآثار المترتبة على الانفصال بينهما عام 1961. وكان المفروض أن تعود الوحدة بين الدولتين العربيتين بعد ثورة 8 آذار عام 1963. لكنْ بدلاً من ذلك انطلق بينهما صراعٌ عنيفٌ حجتُهُ الظاهرة أنّ النظام الثوري السوري الجديد آنذاك يريد تحرير فلسطين فوراًً، في حين يريد جمال عبد الناصر أن يكونَ ذلك استناداً إلى تعاوُنٍ وتخطيطٍ ومؤتمرات قمة وبناء قيادة عسكرية مشتركة بين دول المواجهة! وانتهى الأمر بعد العام 1967 أنه ما عادت هناك دولة مواجهة غير لبنان، وفي البداية من طريق التنظيمات الفلسطينية المسلّحة، وبعد الثمانينات من خلال حزب الله. لكنّ تقصُّد مواجهة مصر ما انتهى بضعف النظام السوري بعد نكبة العام 1967، بل انتقلت الوظيفةُ إلى عراق صدّام حسين، وكانت حجته يومَها الصلح المصري - الإسرائيلي عام 1979.

وانكفأتْ مصر وغابت فعاليتُها لأكثر من عقدين من الزمان. لكنها وهي تُحاول العودة لوجودها ودورها وضروراتها الاستراتيجية، كان المشهدُ في المشرق العربي والخليج قد تبدل لغير رجعة. كانت الولاياتُ المتحدة قد احتلّت العراق وغيَّرت نظامَه. وكانت سورية قد استحضرت إلى غرب الفرات وشماله كُلاًّ من إيران وتركيا. وكانت الحركة الوطنية الفلسطينيةُ قد انقسمت، واستولت حماس على غزة الواقعة على حدودها، والتي كانت قبل العام 1967 تحت حمايتها. ووسط الجيوش والحركات المتزاحمة على النفوذ والموارد بالمنطقة، كان من الطبيعي أن تتجه مصر إلى سورية وإلى السعودية، للتوصُّل من طريق التعاوُن إلى شيء من إعادة التماسُك العربي بعد زلزال العراق المدمِّر، وثوران الولايات المتحدة، والراديكاليين الإسلاميين، والأَذْرُع الطويلة لكلٍ من إيران وتركيا. بيد أنَّ ما كان قادراً عليه الرئيس حافظ الأسد، ما عاد قادراً عليه الرئيس بشار الأسد. ووصل الأَمْرُ إلى ما هو عليه الحالُ الآن: الأطرافُ الدوليةُ والإقليمية قد تعودت على غياب مصر، وعلى انكفاء السعودية، وخَطَب جميعُ مُريدي الأدوار وُدَّ القوى الحاضرة: الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وإسرائيل بالدرجة الثانية، ثم إيران وتركيا أو تركيا وإيران. وكانت قطر بين من تقدَّم بأوراقه: قاعدة عسكرية أميركية على أرضها، وعلاقات بإسرائيل، وخصومة مع السعودية، وعلاقات وثيقة بإيران، وعلاقات حسنة بالحركات الثورية الإسلامية (كانت قيادة حماس عندها بعد الاختصام مع الأردن، ومن عندها مضتْ إلى سورية)، واحتضان للرئيس بشار الأسد على وقْع تردّي علاقاته مع كلٍ من السعودية ثم مصر. ولمن لا يصدّق حضورها رغم ذلك كلّه، فإنَّ عندها فضائية الجزيرة التي ترفع عقيرتَها دليلاً لا يُردُّ على الوجود والحضور. وفي الآخِر، ولأنّ السعوديين والمصريين ما عاد بوسعهم تحمُّل هذا الزحام على "مائدتهم" فتمردوا، وكان هذا الانقسام، الذي وراءهُ هذه القوى الأربع (أميركا وإسرائيل وإيران وتركيا) مجتمعةً أو مفترقة.

والذي سيحدث الآن أنّ مؤتمر قمة قَطَر قد ينعقد يوم الجمعة، أي يوم صدور هذا المقال، وبأكثرية الثلثين (وبينهم دول جيبوتي وموريتانيا والصومال والبحرين وجزر القُمر، لكنْ بينهم بالتأكيد الجزائر والسودان واليمن وعُمان) أو بمن حضَر، كما قال الرئيس الأَسَد. وقد كان مقرراً أن يذهب وزراء خارجية الدول العربية جميعاً ويوم الجمعة بالذات إلى الكويت ، تحضيراً للقمة فيها، التي كان مقرراً أن تنعقد يومَ الأحد، أي بعد يومين. وخلال ذلك قد لا تتمكن مصر من ترتيب وقْفٍ لإطلاق النار على غزة قبل الجمعة، لأنّ إسرائيل لن تُوافق، وقد لا تُوافق حماس، لا يوم الجمعة، ولا يوم السبت!

لقد مضى علينا زَمَنٌ في الثمانينات، وأثناء الغزو الإسرائيلي للبنان، كنا نتمنّى فيه أن يجتمع من أجل الفلسطينيين، ومن أجل بيروت حتى وزراء الإعلام العرب - وبالمناسبة فقد قتل الإسرائيليون يومَها ثلاثين ألْفاً من الفلسطينيين واللبنانيين - ، لكننا لم نحصل على ذلك. أمّا اليوم فتتكاثرُ القمم، وبالتأكيد ليس من أجل غزة أو خان يونس، ويحضرها أكثر أصحاب السمو والسيادة؛ فالأمر كما قال ابن رشيق القيرواني في حالةٍ كحالتنا البائسة:

مما يزهّدني في أرض أندلس ألقـاب معتمـدٍ فيـها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها كالهرّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ

ملاحظة: بعد أن أرسلتُ هذه المقالة إلى الجريدة، صدرت دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز لأعضاء مجلس التعاون الخليجي للحضور إلى الرياض يوم الخميس (أمس). والواضح أنّ لذلك ثلاثة أسباب: تسبُّب القمة القطرية في المزيد من الإساءة للشعب الفلسطيني وقضيته، وتسبُّب التصرفات القطرية في الإساءة إلى مجلس التعاوُن الخليجي بتخريب قمة الكويت، والتسبُّب أخيراً بشقّ الصفّ العربي من طريق تركيز الهجوم على مصر والسعودية، ولصالح أطراف إقليمية ودولية. وهناك أيضاً خبرٌ عاجلٌ بأنّ حماساً قد تكون وافقت على المبادرة المصرية. إن الدعوة السعودية لقمة في الرياض تمثل عودة للرشد العربي. أما موافقة حماس على المبادرة المصرية (إن كانت صحيحة) فإن فيها حقناً للدم العربي. وإنّ غداً لناظره قريبُ!