صمتت فيروز.. فمن يغني لزهرة المدائن؟!

TT

حينما التقت المطربة اللبنانية فيروز لأول مرة بعاصي الرحباني، استعطفت أستاذها حليم الرومي قائلة: «دخلك يا أستاذ، راغبة الكل يلحن لي، إلا عاصي».

وحينما أراد حليم الرومي أن يستوضح وجهة نظرها، قالت فيروز: «هيك ما بحب أحكي معه».

وكان الرومي يرى في فيروز جوهرة عاصي التي يبحث عنها في أعماق الحناجر، وضالته التي ينشدها، دون أن يعثر عليها. لذا، حينما جاءت الصدفة بها إلى الإذاعة صبية صغيرة تغني الأناشيد، واكتشف فيها حليم الرومي صوتا استثنائيا يمكن أن يسبر الرحباني أغواره، ويستخرج كنوزه، لم يستجب الرومي لرجاءاتها، ووضعها بين يدي عاصي، رغم تنافر كيمياء البدايات، مختارا لها اسم فيروز.

ويؤرخ منصور الرحباني لبداية تشكل أضلاع هذا المثلث الفني العظيم في حياتنا الفنية العربية، فينقل عنه مؤلف كتاب «الأخوين رحباني» الشاعر هنري زغيب قوله: «من الناس من يجيئون متوجين منذ الإطلالة الأولى. هكذا جاءت فيروز، ذات الصوت المتفرد. انضمت إلينا؛ أصبحنا ثلاثة، راح صوتها يخترق الحواجز العاطفية؛ وأخذ يرسي في لا وعي سامعيه الأفكار التي يحملها. كانت فيروز هي المنتظرة لإكمال المسيرة الرحبانية، وانطلاقها إلى أبعد، وسينعكس حضورها الآسر إيجابا في ما بعد على حركتنا المسرحية».

هكذا التقت أضلع أهم مثلث فني في حياتنا العربية: عاصي الرحباني، ومنصور الرحباني، وفيروز. وقد رأى في إبداعهم مفكر كبير، كتوفيق الحكيم «إنقاذا لتراثنا الكلاسيكي من البلادة». وبعد رحلة عقود من الإبداع والتميز، رحل عاصي في عام 1986، وتباعد عقبه الضلعان المتبقيان، منصور وفيروز، ومضى كل في طريق.

ويأتي الموت من جديد هذه الأيام ليخطف منصور، ولا يبقي لنا من أضلع ذلك المثلث، سوى أبرز عناوينه، فيروز، التي يعتبرها الشاعر نزار القباني «رسالة حب من كوكب آخر»، ويقول عنها الشاعر محمود درويش بأنها التي «تجعل الصحراء أصغر، والقمر أكبر»، وينعتها سعيد عقل بأنها «سفيرتنا إلى النجوم»، وتصف صوتها «آنا كورسك» مغنية الأوبرا المجريّة بأنه «نسيج وحده في الشرق والغرب».

هكذا رحل عاصي بالأمس، ولحق به اليوم منصور، وتركا فيروز طائرا وحيدا يعاني الصمت، وهجرة الأغصان، فمن يغني لزهرة المدائن؟!.

[email protected]