..والدليل (الواقعي).. على خطأ (تعميم الدعاء على اليهود أجمعين)

TT

العقل والضمير والأمانة والعدل خصال كريمة راقية ليست حكرا على المسلمين، إذ هي خصال يمكن أن يكون لكل إنسان حظ فيها: بحسب سلامة فطرته، واستقامة تفكيره، وكراهيته الشديدة لما يضادها من حمق وموت ضمير وخيانة وظلم.. ومن اليهود اليوم من يتحلى بتلك الصفات النبيلة أكثر مما يتحلى بها عرب ومسلمون يدّعون أنهم أفضل من غيرهم في هذا المجال: ادعاء لا يقوم عليه برهان من سلوكهم، بل قام البرهان على ما ينقض دعواهم.

ولهذا السبب كتبنا ـ في هذا المكان ـ أكثر من مرة ننتقد (الدعاء البدعي)، ونقصد به (الدعاء الشامل على اليهود أجمعين) دون استثناء!!.. فـ(التعميم) خاطئ لأنه يشمل يهودا لا يوافقون الصهيونية على جرائمها  وآثامها، بل يجهرون بتجريمها وتأثيمها، ليس لأن حزبا إسلاميا حرضهم!! أو لأن دولة عربية"!!!" دفعت لهم. وإنما يفعلون ذلك استجابة لتفكيرهم الحر، وضمائرهم الحية، ونزوعهم إلى العدل والإنصاف، وأيضا لرابعة حميدة وهي: العقلانية التي تقدر أن الصهيونية بسلوكها الأثيم: تجر على اليهود كلهم ـ في العالم ـ ما يشقيهم ويشوه صورتهم.

وإنما استنبطنا نقد (تعميم) الدعاء: على الظالم وغير الظالم من منهج الإسلام. فهذا المنهج (يُبَعِّض) ولا (يعمم) لأنه منهج منسوج من (العدل المطلق)، وهو منهج لا يظلم الناس شيئا، ولو مثقال ذرة، ذلك أنه منهج إنما جاء لينشر العدل، ويقيم الميزان: «والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان».. ومنهج هذه طبيعته لا يقِر الظلم قط، ولو في تعميم الدعاء على أناس أبرياء مسالمين.. وكتطبيق على هذا المنهج العام (في التبعيض والشهادة بالحق على الواقع): أنصف القرآن فريقا من اليهود فوصفهم بـ(الأمانة): «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك..». فهذه الآية نزلت في فريق من اليهود.

ونستأنف الموضوع ذاته اليوم (موضوع خطأ التعميم في الدعاء) من خلال الحرب الإسرائيلية على غزة. فهي حرب حفزت المسلمين في كل مكان على إحياء (سنة القنوت) في الصلوات: بالدعاء إلى الله عز وجل: أن يكف ظلم الظالمين المجرمين، وأن ينجي المظلومين المُعتَدى عليهم في غزة.. والدعاء على الظالمين مشروع لكل إنسان ـ بغض النظر عن عرقه و دينه ـ ولذا تُقبَل دعوة المظلوم وإن كان غير مسلم، على الظالم وإن كان مسلما. فهذا شأن يتعلق بـ(صفات الربوبية) التي لكل مخلوق حظ منها حيث إن الله هو (رب العالمين).. نعم هذا دعاء مشروع، لكن ليس مشروعا: أن يُقال في الدعاء (اللهم أهلك اليهود أجمعين) مثلا. فهذا دعاء فيه ظلم بواح لفريق من اليهود بريء ومسالم، غير ظالم ولا مُعتد.

وفيما يلي دلائل ناطقة على وجود هذا الفريق اليهودي: ذي العقل والعدل والضمير والشرف:

1- عشرات الحاخامات الإسرائيليين جهروا بالمطالبة بوقف الحرب على غزة.

2- في لندن: شارك يهود كُثر ـ منهم رجال دين ـ في مظاهرة تُدين العدوان الصهيوني على غزة. (انتباه: هناك حاخامات مجرمون أصلوا المحرقة بنصوص توراتية).

3- البروفيسور نيف غوردون رئيس قسم السياسة والحكومة في جامعة بن غوريون قال في حديثه للقناة الأمريكية المستقلة (الديمقراطية الآن) كلاما صريحا جريئا بمناسبة العدوان على غزة.. ومما جاء في حديثه: (إن نحو 700 إسرائيلي أُلقي عليهم القبض منذ بداية العدوان على غزة، والسبب أنهم تظاهروا أو اعترضوا على الحرب. ولكن هذا الخبر عُتِّم عليه، وهذا نوع من الإرهاب الحكومي للمعارضين.. إن إسرائيل تتحدى القانون الدولي والمعاهدات الدولية منذ عام 1967، بل قبل ذلك. ومن القرارات التي لم تلتزم بها: قرار إعادة الأرض التي احتلتها إلى الفلسطينيين، على عكس ذلك هي لا تزال تسيطر على هذه الأرض المحتلة بالعنف.. إن الفلسطينيين يدافعون عن أنفسهم، والدفاع عن النفس حق مشروع، ومنه ما يكون ضد العنف. ويجب أن نفهم أن الاحتلال في ذاته عنف، كما أن حصار مليون ونصف مليون إنسان هو عنف، والفلسطينيون يقاومون ذلك كله، وعلى الرغم من أني ضد أسلوب مقاومتهم إلا أننا يجب أن نقيس عنفنا بعنفهم.. إن قطاع غزة لا يزال محتلا لأن إسرائيل تتحكم بحدوده، والضفة الغربية محتلة، وكذلك القدس الشرقية. وقذائف الفلسطينيين هي رد فعل على هذا الاحتلال العنيف، فالقضية بين مُحتَل وبين شعبٍ مُحتَلّة أرضه.. إن إسرائيل هي التي خرقت وقف إطلاق النار في الرابع من نوفمبر. وما الإرهاب؟ إذا كان تعريفنا للإرهاب لا يحدد الفاعل بهوية معينة، بمعنى أن كل من يقصف مدرسة أو جامعة أو حيا سكنيا ويقتل مدنيين أكثر بكثير من المسلحين يكون قد ارتكب فعلا إرهابيا، فإن هذا الوصف ينطبق على إسرائيل.. إنني أرى أن هناك سببين اثنين لهذا العدوان: السبب الأول هو: إعادة هيبة الجيش بعد إهانته في لبنان.. والسبب الثاني: التنافس في الانتخابات المقبلة).. ويختم غوردون حديثه بما يلي: (إذا لم نتفاوض مع الفلسطينيين فإن إسرائيل ستدمر في النهاية حيث إن تقدمنا التكنولوجي على الفلسطينيين والعرب سيصبح عديم المعنى والأثر في نهاية المطاف).

4ـ البروفيسور اليهودي الإسرائيلي إيان بابي، وهو مؤرخ وعميد قسم التاريخ في جامعة إكستر البريطانية كتب ـ كذلك ـ مقالا صريحا شجاعا قال فيه: (إن مذبحة إسرائيل في غزة مبنية على الكذب الذي تبثه وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية. هذا الكذب الذي يذكرنا باللغة الأورولية (من كتاب 1984 لجورج أورويل) التي كانت مهيمنة في الثلاثينات في أوروبا. فإسرائيل تصور نفسها لشعبها بأنها هي الضحية التي تدافع عن نفسها ضد الشر. وقد جندَت الوسط الأكاديمي ليتحدث عن وحشية الكفاح الفلسطيني، وهم نفس الأكاديميين الذين صوروا ياسر عرفات بأنه شيطان، وصوروا حركة فتح بأنها فاقدة الشرعية مطلقا في أثناء الانتفاضة الثانية.. وتشمل اعتداءات إسرائيل الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل والذين يتعاطفون مع إخوانهم في غزة، إذ تتهم إسرائيل هؤلاء بأنهم (طابور خامس)، وتشكك في حقهم في البقاء فيها لأنهم لا يدعمون اعتداء إسرائيل على غزة، بل إن الأطفال الفلسطينيين من مرضى السرطان والذين يعالَجون بأسعار باهظة في المشافي الإسرائيلية، هؤلاء الأطفال لم يسلموا من الاضطهاد والإذلال، إذ يذهب الإعلام الإسرائيلي يوميا إلى تلك المشافي ويطالب أهالي الأطفال بأن يصرحوا بأن إسرائيل محقة في عدوانها، وأن المقاومة مذنبة وشريرة.. إن النفاق الإسرائيلي لا حدود له، والحوار بين الجنرالات والسياسيين يتراوح بين مدح الذات على إنسانية الجيش في عملياته النظيفة وبين الإلحاح على ضرورة تدمير غزة بالكامل، ولكن طبعا بطريقة إنسانية!!.. وهذا النفاق هو ظاهرة مستمرة وثابتة منذ الاحتلال الصهيوني وتهجير الفلسطينيين. فكل إبادة عرقية، وكل احتلال ومذبحة ودمار يُصَوَّر بأنه (مُبَرر أخلاقيا)، ونوع من الدفاع عن النفس تضطر إسرائيل إليه لأنها في حرب ضد أسوأ أنواع البشر. وهذا النفاق والإحساس بالفوقية (نحن لا نخطئ) يحمي المجتمع والسياسيين من أي نقد خارجي، كما أنه، وهو الأسوأ: يُتَرجَم إلى سياسات تدميرية تُطَبق على الفلسطينيين، وبغياب آلية النقد الداخلي، والضغط الخارجي: يصبح كل فلسطيني هدفا. ولكن لا ينبغي أن تمر هذه الجريمة بسهولة واسترخاء. فالجرائم البشعة مثل القتل الجماعي في غزة يجب أن تُوَضَّح على أنها نتيجة لتاريخ مُعَتَّم عليه، وأيدلوجية ثابتة، ويجب أن يدرك الرأي العام هذه الحقيقة. وهذه هي الفرصة التي نستطيع أن نؤثر من خلالها على الرأي العام لأن الأنظار كلها موجهة إلى غزة). هاتوا عربا ومسلمين قالوا كلاما أحق وأوضح وأشرف من هذا.

والخلاصة المركزة للمقال هي:

أ ـ أن يكف المسلمون عن تعميم الدعاء على اليهود أجمعين. فهذا التعميم دعاء بدعي ظالم آثم. والله جل ثناؤه لا يقبل دعاءً ظالما آثما.. والقاعدة العدلية العظمى ـ ها هنا ـ هي: «ولا تزر وازرة وزر أخرى».. ومن حق هؤلاء اليهود العقلاء العدول: أن تُفطَم الألسنة عن الدعاء عليهم.

ب ـ إن (البعد الإنساني) يبدو أنه يتقدم على أي بعد آخر. ولذا نتمنى قيام (جبهة إنسانية عالمية ضد الظلم والعدوان). جبهة تنتظم العقلاء العدول من اليهود والنصارى والمسلمين ومن لا دين له، مُقتدين بنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال: «شهدت مع عمومتي حلفا لو دعيت له في الإسلام لأجبت». يشير إلى حلف الفضول الذي نشأ قبل بعثته، وهو حلف كان قوامه وعماده ومقصده: مناهضة الظلم و العدوان، ونصرة المظلومين والمستضعفين.