أصل الداء في مسألة رفع الحذاء

TT

قرأت بحزن تفاصيل المشهد المخزي للحراك السياسي في مصر عندما رفع نائب إخوانجي في مصر الحذاء معتديا بسوقية لا مكان لها في البرلمان حيث تمثل الأمة المصرية (بصرف النظر عن الشخصيات)، وهو مكان له قيمة اعتبارية تفوق أي آيدولوجية.

في أي مكان في قصر وستمنستر، مقر مجلسي العموم واللوردات، ينبهك احد الحراس الى خلع قبعتك احتراما لقيمة المكان.

إضفاء الهيبة على بيت أم البرلمانات وأقدم الديموقراطيات برفع القبعة يعود الى ايام قدسية دخول الكاتدرائية عندما كانت انجلترا كاثوليكية وقت تأسيس البرلمان؛ وغيرت البلاد دياناتها الى الانجليكية، ثم اتبعت السبيل العلماني في السياسة بعيدا عن الدين، وظلت الطقوس البرلمانية الأسمى وذات الهيبة والقيمة لانها رمز الأمة، والتي هي فوق الجميع.

رفع نائب الحذاء في هذا المكان المهيب إهانة للدولة المصرية التي لا يجب أن يعلو أي صوت فوق صوتها (جملة الزعيم الوطني مصطفى كامل باشا)، وجريمة أخلاقية اكثر فداحة من ضربة حذاء شقي في وجه أمه التي حملته تسعة أشهر وأرضعته ورعته حتى اشتد عوده.

هناك حملة لجمع مليون توقيع لسحب الجنسية المصرية من النائب الذي رفع الجزمة. ومع تقديري لغيرة ملايين المصريين على الدولة المصرية وكرامتها، فإن الدستور المصري لا يسمح بإسقاط الجنسية عن أي مصري.

توجيه تهم، كإهانة ممثلي الامة، او العدوان باللفظ والفعل، او حتى الخيانة العظمى، وكان يجب أصلاً ان توجه الى مرشده «اية الله» مهدي عاكف لقوله الاكثر قبحا من فكره «طز في مصر وأبو مصر».. أمر يرجع للجنة البرلمان الادارية لإعادة الهيبة لقبته.

وكعادة الإخوان، الذين قتل فرعهم المعروف بحماس في غزة على حدود مصر ضابطا مصريا (وهناك غليان في الشارع المصري مطالبا بارسال حملة تأديبية لقاتليه) يستخدمون الدين كورقة توت لستر سوءاتهم. فبدلا من اعتذار النائب عن قلة أدبه وطلب الغفران من الامة المصرية، بعد ان يحبس في غرفة الفئران (عندما كان ياتي طفل بفعل قبيح في المدرسة تهدده المعلمة بانه سيحبس في غرفة الفئران اذا كررها)، صاح بغرور وعن جهل (فكتاتيب الاخوان لا تعلم شيئا عن الممارسات الديموقراطية) «الاسلام قبل مصر».

الجدل باطل لأن الاسلام دين يعتنقه حملة مئات الجنسيات، وليس كل المصريين مسلمين، والدولة المصرية موجودة بشعبها وبحدود لم تتغير وجهاز دولة وجيش ومؤسسات، بضعة آلاف السنين قبل نزول الاديان السماوية ـ وهذا العام مثلا 6250 بالتقويم المصري ـ الفي عام قبل موسي عليه السلام.

ربما تغير نظام الحكم وتطورت اللغة وتغير الدين ثلاث مرات، وبقيت الامة «مصرية» لم تتغير، وقصد من رفع الحذاء بهذه المغالطة تحويل الانتباه بعيدا عن جريمته الشنعاء.

وقد تصدى له الدكتور مصطفى الفقي قائلا «انه تحت قبة البرلمان تأتي مصر اولا، فالدين مكانه دور العبادة، ولا يحق للساسة مناقشته في البرلمان المختص بالشؤون السياسية للامة المصرية».

ولا يقتصر تدهور الاخلاق في المشهد السياسي المصري على الاخوان وحدهم (رغم تفوقهم في لغة التكفير وضرب النساء لإدخالهن في زي ايراني، وترهيب الخصوم وارهاب الناس وتفجير القنابل)، اذ تجد في بعض صحف المعارضة العلمانية ما يثير الغثيان من اهانة للخصوم والتطاول على رئيس الدولة نفسه. وبصرف النظر عن الاتفاق او الاختلاف مع الحكومة ـ حيث يتعقد الامر بجمعه لرئاسة الدولة والحزب الحاكم ـ يجب اختيار ألفاظ لنقد موضوعي مهذب، والتفريق بين انتقاده كزعيم للحزب الحاكم، وبين شخصه كرئيس للدولة، وكرمز للامة المصرية التي يعتبر التطاول عليها جريمة لا تغتفر.

ولن تجد في صحيفة حزب معارض في العهد الملكي، الذي انتقده عسكر يوليو (لتناحر الاحزاب)، خروجا عن الذوق وألفاظا كالتي تقرأها في صحف مصر اليوم.

واغتيال الاتيكيت، حتى للمصلحة المهنية، وصل السياسة الخارجية المصرية. فمثلا عندما كنت بلا حراك في المستشفى قبل اسبوعين عقب جراحة معقدة في العمود الفقرى زارني سفراء، او نوابهم، وتلقيت الزهور من 43 سفارة وبعثة ديبلوماسية ـ من القوى العظمى وحتى  اصغر البلدان ـ ما عدا السفارة المصرية. وبصرف النظر عن انني من مواليد الاسكندرية، فان العمل الديبلوماسي يتطلب مجاملة صحفي له وزنه في شارع الصحافة البريطاني حتى لمجرد إقناعه بانتماء الديبلوماسي لبلد يعرف الاتيكيت المتحضر.  

وكانت هذه النقطة بالذات، والترحم على اخلاق زمان، والحزن على حالة التردي الاخلاقية التي لم تشهد لها مصر مثيلا، منذ تأسيس محمد علي باشا (1769 ـ 1849 للدولة الحديثة عام 1805، محل حديث حفلة امس (الجمعة 16 يناير) بمناسبة عيد الميلاد الـ 57 للملك (احمد) فؤاد الثاني، لجمعية الملكيين الدستوريين المصرية.

فجلالته لا يزال، حسب الدستور القانوني 1923، الملك الشرعي لمصر. فبعد انقلاب العسكر، ذهبت ثلة من الضباط الى قصر رأس التين مطالبين المغفور له الملك فاروق الاول (1920 ـ 1965) ملك مصر والسودان بالتنازل عن العرش لولي العهد الامير احمد فؤاد (وكان رضيعا عمره ستة اشهر).

ألحّ الحرس الملكي يومها (26 يناير 1952)، وقسم معتبر من ضباط الجيش، خارج سيطرة المخابرات الامريكية التي وثقت علاقاتها بقيادات  «الضباط الاحرار»، على مقاومة الخارجين على الشرعية الدستورية. فرفض الملك فاروق قائلا ان فقدان العرش أهون عليه من إراقة دم مصري بسلاح أخيه المصري. واصبح الرضيع الملك فؤاد الثاني ملك مصر والسودان.

علق دستور 1923، وألغيت الملكية (1953) على يد «مجلس قيادة الثورة» غير المنتخب شرعيا، وليس في برلمان منتخب (لم ترفع فيه الاحذية) فالقراران باطلان، ولا يزال فؤاد الثاني هو الملك الشرعي لمصر.

وقد سمي باسم جده فؤاد الاول، الذي يعتبر بحق رائد التنوير بعد استقلال مصر عن الدولة العثمانية 1922، وفي عهده تم تأسيس الديموقراطية الليبرالية التعددية الحزبية على نظام وستمنستر، وتناوب الحكم بالانتخاب، وتصنيع البلاد والاصلاحات والتطعيم ضد الامراض وتعميم التعليم الجامعي، وهذا يستحق مقالا آخر.

الخلاصة ان المؤسسة الدستورية الملكية التي قامت على ركيزة بنية تحتية اسسها الخديوي اسماعيل وقام فؤاد الاول بتحديثها، هي التي رسّخت في مصر اتيكيتَ وأخلاقا وذوقا حسدتها عليها بلدان اوروبا التي هاجر مواطنوها الى مصر بحثا عن الرزق والعيش المتحضر.

وبتحطيم الانقلاب العسكري لهذه المؤسسة وصلت مصر الى قاع رفع نائب حذاءه فوق رؤوس زملائه تحت قبة البرلمان ـ أقدس رموز الامة المصرية الحديثة.