اطردوا تجار العملة من المعبد

TT

مع تطلع باراك أوباما باتجاه الماضي، تحديدا إلى خطاب فرانكلين روزفلت في حفل تنصيبه رئيسا للبلاد ـ باعتباره خطاب التنصيب الوحيد الآخر الذي تم إلقاؤه في خضم أزمة اقتصادية ـ عليه أن يولي اهتماما خاصا للكلمات التي وجهها روزفلت إلى المصرفيين الأميركيين، والذين تسببوا حينها، مثلما الحال الآن، في إغراق الأمة في هوة اقتصادية.

وأعلن روزفلت: «لقد رحل تجار العملة عن مقاعدهم الوثيرة داخل معبد حضارتنا. والآن، يمكننا استعادة معبد الحقائق القديمة».

وبطبيعة الحال، تحمل هذه العبارة إشارة ضمنية إلى القصة التي أوردها ماثيو عن طرد يسوع لتجار العملة من المعبد. لكن «تجارة العملة» يعد وصفا مناسبا للغاية لما عكفت وول ستريت على القيام به على امتداد العقود العديدة الماضية، ففي الوقت الذي تجمدت فيه دخول الأميركيين، وتفاقمت الديون على كاهلهم، شرع عباقرة وول ستريت في بناء ثروات لهم من خلال جني عمولات على مشتقات من مشتقات من مشتقات. بحلول عام 2007، عندما وصلت أرباح وول ستريت لمستوى مذهل بلغ 40% من إجمالي الأرباح الأميركية، لم تعد مهمة مصادر التمويل الأميركية منصبة على النشاطات التجارية الأميركية، بمعنى توفير قروض لجهود الإنتاج المحلي والابتكارات التقنية وما شابه ذلك، وإنما باتت مهمتها مقايضة رهون وتغطيات على رهون وتغطيات، وجميعها مقابل عمولات هائلة.

بخلاف صياغة المزيد من السبل التي تُسقط الأميركيين في هوة الديون، نأت وول ستريت بنفسها فعليا عن المشاركة في الحياة الاقتصادية التي يعيش ويعمل بها الأميركيون. وفي الوقت الذي هلل الحمقى من قناة «سي إن بي سي» للزيادات التي شهدتها سوق الأسهم خلال السنوات السبع الأولى من رئاسة جورج دبليو. بوش باعتبارها دليلا على تحقيق الاقتصاد الأميركي مستوى رائعا من الأداء على نحو غير مسبوق، أوضحت كافة المؤشرات الاقتصادية الأخرى أن الاقتصاد في حالة متردية. ومثلما أشار نيل إروين ودان إغين في عدد «واشنطن بوست» الصادر يوم الاثنين، فإن معدل خلق الوظائف ونمو إجمالي الناتج المحلي خلال فترة رئاسة بوش يعد الأدنى من نوعه، مقارنة بأي فترة رئاسية أخرى على امتداد حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، وبصورة ما، غفل العباقرة الماليون لدينا عن هذا الأمر، وبنوا صرحا ماليا ضخما على عاتق المستهلكين الذين عجزوا في نهاية الأمر عن المضي قدما في الاستهلاك.

ولكن حتى بعد أن تسبب تهورهم في إسقاط البلاد في أزمة اقتصادية، لا يزال المصرفيون الأميركيون بمثابة الأطفال المدللين للسياسة الاقتصادية التي وضعها بوش وبولسون، وربما يظلون على هذه الحال في عهد إدارة بوش. في الجمعة الماضية، صدر تقرير عن اللجنة التي شكلها الكونغرس للإشراف على برنامج إنقاذ الأصول المتعثرة التابع لوزارة الخزانة، الذي يتولى إدارة إنفاق مبلغ لإنقاذ المصارف يبلغ 350 مليار دولار للمصارف، أشار إلى أن وزارة الخزانة لم تضطلع بمراقبة كيفية تصرف المصارف في الأموال التي تلقتها، وأنه على الرغم من أن التشريع الصادر بشأن أموال الإنقاذ المالي ينص على أن الهدف «توفير أكبر قدر ممكن من المساعدة لملاك المنازل»، لم يتم استغلال أي من أموال الإنقاذ المالي لهذا الغرض.

في الواقع، لو رغبت وزارة الخزانة في وضع نظام يثبت بشكل قاطع فشل التوجهات الاقتصادية القائمة على فكرة خفض الضرائب على الشركات والأثرياء، لم تكن لتفعل ذلك على نحو أفضل مما حققته بالفعل عبر برنامج إنقاذ الأصول المتعثرة، فمن خلال هذا البرنامج، ألقى وزير الخزانة هنري بولسون بالمال إلى المصارف التي ترفض بشكل قاطع تقديم قروض للشركات وملاك المنازل، بغض النظر عن مدى متانة وضعهم الائتماني.

وعليه، تتضح ضرورة تمرير مشروع القانون الذي يروج له بارني فرانك داخل مجلس النواب إذا ما خول الكونغرس وزارة الخزانة إنفاق 350 مليار دولار أخرى على برنامج إنقاذ الأصول المتعثرة. جدير بالذكر أن القانون المقترح من شأنه توجيه المصارف التي تختار تلقي أموال من تلك المخصصة للإنقاذ المالي، نحو الشروع في تقديم قروض إلى المقترضين المؤهلين للحصول على اعتمادات، وتخصيص ما لا يقل عن 40 مليار دولار للتخفيف من وطأة أزمة الرهن العقاري.

وإذا ما نجح المسؤولون الذين سيعينهم أوباما في إثارة قدر كاف من الثقة في استعدادهم على اتخاذ موقف صارم حيال المصارف، فإنه ربما تختفي الحاجة لوجود مثل هذا التشريع بالفعل. لكن للأسف، لا يبدو الحال على هذا النحو. جدير بالذكر أن ماري شابيرو، التي اختارها أوباما لترأس لجنة الأوراق المالية والبورصة، سبق وأن تولت قيادة الكيان التنظيمي داخل الصناعة المالية، الذي لم يحرك ساكنا لكبح جماح انغماس وول ستريت في المضاربات. كما أن غاري غنسلر، الذي اختاره أوباما لرئاسة لجنة ضبط أسواق السندات الآجلة، صاغ تشريعا عام 2000 يقضي بإعفاء المشتقات من التنظيم.

وتثير هذه التعيينات الانتباه بشكل ملحوظ، لما تحمله من اختلاف عن الاختيارات الأخرى لأوباما بالنسبة للمسؤولين المعاونين له. على سبيل المثال، يتمتع الأفراد الذين قام بتعيينهم في مناصب تُعنى بالبيئة بسجلات واضحة في مجال مناصرة قضايا الحفاظ على البيئة. كما أن ليون بانيتا الذي اختاره لترؤس وكالة الاستخبارات المركزية وجه انتقادات حادة لاستخدام الوكالة للتعذيب. لكن عندما تعلق الأمر بتنظيم المصارف، اختار أوباما أفرادا اتخذوا صف المصارف ضد الصالح العام. والآن، ينبغي النظر إلى هؤلاء الأفراد بنفس الحذر الذي يجري من خلاله النظر إلى الأفراد المعينين في مناصب تتعلق بالبيئة، وسبق لهم التصويت ضد فرض معايير أكثر صرامة على صعيد استهلاك الوقود، أو الآخرين المعينين في مجال الاستخبارات، الذين تولوا الدفاع عن استخدام التعذيب. لذا، من الضروري تمرير مشروع القانون الذي اقترحه فرانك.

في خطاب تنصيبه رئيسا للبلاد، قال فرانكلين روزفلت: «إن المسيطرين على تبادل السلع بين البشر أخفقوا، من خلال عنادهم وافتقارهم إلى الكفاءة، واعترفوا بفشلهم وتنحوا عن مناصبهم». أما اليوم، فإن هؤلاء المسيطرين على الجانب الاقتصادي ارتكبوا أخطاء لا تقل فداحة عما اقترفه السالفون، ومع ذلك، بدلا من أن يتنحوا عن مناصبهم، يتلقون أموال الضرائب ولا يفعلون بها شيئا ذا قيمة.

لقد حان الوقت، سيدي الرئيس، لطردهم من المعبد.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»