إنها عملية حرب

TT

تغيرت الظروف، وكذا أسماء اللاعبين البارزين على الساحة. مفاوضات السلام تروح وتجيء، وكذا تفاصيل الاتفاقات الخاصة بها. ولكن في النهاية، يبقى النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني الشيء ذاته، وعندما يخفق كل شيء آخر، يمكنك أن تتيقن تماما أن شخصا ما، في مكان ما، سيظهر ليصدر بيانا يدعو فيه إلى السلام.

وبالفعل، لم يكن هناك أي عجز في مثل تلك البيانات على مدار الأيام الأخيرة. ففي أعقاب الهجمات الإسرائيلية على غزة، أطل علينا بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، مناشدا «جميع أعضاء المجتمع الدولي لإظهار الوحدة والالتزام المطلوبين لوضع نهاية لهذه الأزمة المتعاظمة». كما دعا خافيير سولانا، المنسق الأعلى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، لوقف الأعمال العدائية والحربية. وأعلن قائلا «يتعين أن يكون وقف إطلاق النار من جانب كل شخص، وأن يتم الحفاظ عليه بصورة واضحة».

وفي السياق نفسه، صرح غوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني، بأن «ما نحتاجه هو وقف فوري لإطلاق النار». ومما لا شك فيه، صاحب تلك التصريحات والبيانات اندفاع عدد كبير من السaاسة إلى منطقة الشرق الأوسط، فقد وصل نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي، إلى إسرائيل في مستهل زيارة له إلى منطقة الشر ق الأوسط. وكذلك وصل كارل شوارزنبيرغ، وزير خارجية جمهورية التشيك، وهي الدولة التي تتولى حاليا الرئاسة المتناوبة للاتحاد الأوروبي. بل إن حتى الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف أرسل مبعوثا هو الآخر إلى المنطقة. ويبدو أن الأمر قد أصبح كما لو كان فريق أوليمبي يفوز بالكثير من الميداليات الذهبية، إذ أصبح أن يكون لديك سياسة للسلام في الشرق الأوسط بمثابة علامة للهيبة والمقام الدولي الرفيع.

ولكن بعيدا عن الهيبة والاحترام الدوليين، فمن الصعب للغاية رؤية قضية أساسية تتعلق بمثل تلك الإيماءات. وفي الشرق الأوسط، دائما ما كانت أنجح وأهم المبادرات الدبلوماسية تلك التي تمت على أكبر قدر من الهدوء، ومثالا على ذلك، تم التفاوض على اتفاقية أوسلو للسلام عام 1993 - في مرحلتها الابتدائية على الأقل - في سرية مطلقة. وفي المقابل، كانت المبادرات الدبلوماسية، المصممة في الأصل لخدمة الدبلوماسيين (أو على الأقل ناخبيهم في أوطانهم)، هي الأكثر صخبا وعلانية، وفي هذا الصدد لنتذكر مؤتمر السلام في أنابوليس خريف عام 2007، حيث شربت جميع الجماهير نخب الاتفاق، وكانت كاميرات التصوير في كل مكان، علاوة على أن جميع اللاعبين غير الأساسيين كانوا حول طاولة المفاوضات. ومن المحتمل أن يمنح ذلك الأمر هذا الجمع فرصة كبيرة لتوجيه اللوم إلى أنابوليس بشأن العدوان الإسرائيلي على أراضي غزة هذا الأسبوع. ومع ذلك، ومع كل هذا التفاخر والتباهي والظروف المحيطة بعقد المؤتمر، فمن العدل تماما أن نوضح أن هذا المؤتمر قد أخفق في الحيلولة دون تفجر العنف في المنطقة من جديد.

والأكثر من هذا، أنه لا يمكن لأي من تلك المؤتمرات أن تمنع حدوث ذلك، إذ تتجسد المشكلة الكامنة في جميع جهود السلام، ومؤتمرات السلام، ومبادرات السلام، ومقترحات السلام، أنه لا يوجد أي منها يعي أكثر حقيقة واضحة بشأن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني؛ ألا وهي أنها ليست عملية سلام، بل هي حرب. فحتى الوقت الحاضر على الأقل، مازال كلا الطرفين مقتنعا بأن أهدافه الرئيسية سيتم التوصل إليها على أفضل صورة عبر الأسلحة والمخططات العسكرية بدلا من أي نوع وشكل من المفاوضات. وللمزيد من الوضوح، تعتقد حماس وتابعوها أن استمرار إطلاق الصواريخ على الجنوب الإسرائيلي، سيؤدي – عاجلا أم آجلا - إلى فناء الدولة اليهودية. كما يظن الإسرائيليون - على اختلاف توجهاتهم، بدءا باليساريين «المعارضين للحرب»، وحتى اليمينيين المولعين بالحرب - أن الطريقة الوحيدة لمنع حماس من إطلاق الصواريخ هي الرد عليهم قتاليا. ويمكن لأي تدخل - سواء كان من قبل الأوروبيين، الذين لديهم النية والعزيمة فعليا على القيام بهذا، أو من وفود الأمم المتحدة، أو المبعوثين الروسيين، (أو حتى كوندوليزا رايس، الماكثة في بلادها بحكمة حتى الآن) - أن يؤدي إلى إرجاء الصراع، إلا أنه لا يمكنه إيقاف العنف، على الأقل، حتى يستسلم أي طرف من الطرفين.

والخلاصة هنا، أن الفترة الهادئة التي صحبت عملية السلام في أوسلو كانت ممكنة، لأن ما حدث تماما هو الآتي: أدى مزيج من الهجرة الروسية إلى إسرائيل، ونهاية الدعم السوفياتي، وقدر من الضجر العام، إلى توصل جزء من السلطة الفلسطينية على الأقل – وبعد 30 عاما- إلى حقيقة مفادها أنه ليس بمقدورهم أبدا التخلص من إسرائيل في البحر. كما توصل بعض القادة الإسرائيليين القلقين أيضا، على الأقل، إلى حقيقة مؤداها أن سياساتهم الاحتلالية جعلت إسرائيل أكثر ضررا، وإيذاء بدلا من كونها خيرة، وأنهم قد ينالون الكثير عبر التفاوض، أكثر مما ينالون من الحرب. وستتسم المفاوضات الأخرى بالمنطقية أيضا عندما يتوصل قادة حماس - الذين يدعمهم في الوقت الحالي ذلك السخط الشعبي، والدعم الإيراني - في النهاية، إلى نفس النتيجة التي توصل إليها نظراؤهم العلمانيون من قبل، وأن يقتنع جيل جديد من الإسرائيليين بتصديقهم.

وحتى يحدث هذا، ليس هناك أي فائدة من التحسر على سلبية إدارة بوش، أو صمت باراك أوباما، أو وهن القادة العرب، أو الضعف الأوروبي، في الوقت الذي بدأ الكثيرون - وكما هو متوقع - في القيام بذلك. وليس «خطأ» الغرباء أن القتال مازال مستمرا، والتظاهر بتعتيم وإخفاء ملامح القضايا الحقيقية فعليا. قد يستطيع الدبلوماسيون إبطاء تقدم الحرب، إلا أنها لن تضع أوزارها حتى يظفر أي طرف من طرفي القتال بها.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ «الشرق الأوسط»