رسالة إلى أوباما: متساوون على كوكب واحد

TT

فخامة الرئيس المنتخب باراك حسين أوباما، بعد يومين فقط سوف تصبح سيداً للبيت الأبيض، ورئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وأول أميركي من أصل أفريقي يصل إلى هذا المنصب، والشكر لله على ذلك أولاً، فهو الذي خلقنا متساوين، وأمرنا بالمساواة في العلاقات بيننا، ثم لروزا باركس، التي برفضها ترك مقعدها في الحافلة لأحد البيض، خطت الخطوة الأولى في تقويض النظام العنصري في أميركا، فكانت خطوتها تلك أشبه ما تكون بخطوة ارمسترونغ على القمر: خطوة بسيطة وصغيرة، ولكنها قفزة كبيرة للإنسانية جمعاء. ولا يمكن بطبيعة الحال نسيان مارتن لوثر كينغ، ومالكوم إكس، والكس هيلي كاتب رواية «الجذور»، تلك الرواية التي أعادت الحياة «لكونتا كنتي»، ذلك الأفريقي الحر الذي أصبح عبداً في أميركا، ولكن روحه لم تستعبد أبداً، وأعادت الروح لعرق كامل من الشعب الأميركي، والوعي لأمة بأكملها، بأسودها وأبيضها وخلاسيها.

ولو أردنا سرد أسماء من ناضلوا حتى أصبح من الممكن أن يُصبح أفريقي أميركي رئيسا لأمة كانت سوسة العنصرية تنخرها إلى وقت قريب، لطالت القائمة، وفي هذا المجال لا يمكن إلا أن يُذكر الأفريقي الأصيل نيلسون مانديلا، الذي ضرب مثلاً في كيفية المقاومة لا في جنوب أفريقيا فقط، ولكن في كل العالم، وأصبح رمزاً للمساواة، ولم يفقد إيمانه بالإنسان في لحظة من اللحظات.

أنا واثق، يا سيادة الرئيس، بأنك عالم بتاريخ الأميركيين السود ومعاناتهم، منذ اختطفوا من غابات أفريقيا وسواحلها، وأصبحوا عبيداً وهم الأحرار أصلاً، وحتى لحظة انتخابك رئيساً، وتعاني لمعاناتهم التاريخية، حتى لو أنك لم تعش حياة الضنك والظلم والتفرقة العنصرية، فالإرث الأسود الذي تحمله على كتفيك، لمجرد أنك أفريقي الأصول، أو حملك إياه أفارقة أميركا، والذي عبرت عنه دموع جسي جاكسون يوم انتخابك، يجعلك شاعراً بالمعاناة العامة، حتى لو لم تعان شخصياً أو بشكل خاص. هذا الإرث من المعاناة هو الذي يجب أن يكون البوصلة التي تهتدي بها وأنت على رأس أغنى وأقوى دولة في العالم، والأكثر تأثيراً في مجريات أمور العالم، حين تتعامل مع هذا العالم، وليس مع أميركا فقط. ليس هذا الإرث فقط هو ما يجب أن يشكل البوصلة، بل الدستور الأميركي الذي ينص على حق الإنسان في الحرية والمساواة والبحث عن السعادة.. نعم، البحث عن السعادة، ولكن أين هي السعادة في عالم اليوم؟ هذا الدستور هو أعظم الإنجازات الأميركية، وهو الذي مكنك في النهاية من الوصول إلى التربع على عرش العالم، حين أصبحت المساواة، وإن لم تكن كاملة، فالكمال لله وحده، تشمل الجميع، بعد أن كانت حكراً على الأبيض دون الأعراق الأخرى، وحكراً على الرجل دون المرأة، ولكن هنا تكمن عظمة أميركا: قابلية التحول والقدرة على التغير، بحيث تنتقل من نظام الرق إلى نظام المساواة، ومن العنصرية المطلقة، إلى التسامح والمواطنة، بينما تحجرت أنظمة أخرى، فقتلت نفسها بيدها، وانطبق عليها المثل «على نفسها جنت براقش»، وهو مثل يضرب عندنا لمن يضر نفسه بنفسه، وللمثل قصة بطلتها كلبة، ولكني لا أظن أنكم تودون سماع القصة.

عالم اليوم، سيادة الرئيس، أشبه ما يكون بأميركا أيام العبودية والعنصرية إلى حد كبير، فهناك أسياد وهناك عبيد، وهناك ظالم ومظلوم، وهناك قهر واستعباد وطغيان، وكل ما يمكن تصوره من آثام قسوة الإنسان على الإنسان. ورغم أن ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة يؤكد ذات المبادئ، التي عبر عنها الدستور الأميركي ومبادئ الثورة الفرنسية، إلا أن كل ذلك يبقى حبراً على ورق بالنسبة لكثير من شعوب هذه الأرض، وذلك كما كانت المبادئ الإنسانية للدستور الأميركي مجرد حبر على ورق بالنسبة للنساء وسود أميركا وبقية الأعراق غير البيضاء، بل وحتى بعض الأعراق البيضاء، كالآيرلنديين والإيطاليين والكاثوليك. نضال الأفارقة الأميركيين تحديداً، والنضال السلمي بصفة خاصة، أدى إلى أن تصبح مبادئ الدستور قولاً وفعلاً، فهل سيأتي اليوم الذي نجد فيه ميثاق حقوق الإنسان دستوراً فعلياً لكل العالم؟ أتمنى ذلك، وأتمنى أن يكون ذلك جزءاً من برنامجك، «فنحن نستطيعYES WE CAN »، كما يؤكد شعارك الانتخابي، ولا شيء مستحيلا إذا دعم بالإصرار والثبات على المبادئ، وأنت رجل مبادئ، أو هكذا طرحت نفسك. وضمير «نحن» هنا يعبر عن كوننا جميعاً ننتمي إلى بني الإنسان، فمهما اختلفت شعوبناً وقومياتنا وأعراقنا، فنحن في النهاية ننتمي إلى الإنسانية قبل أي شيء آخر. ومن المؤسف، يا سيادة الرئيس، أن جزءاً كبيراً من المعاناة التي يمر بها عالم اليوم هي صناعة أميركية، رغم كل مبادئ الإنسان التي ترفعها أميركا، ويقول بها دستورها. فالفلسطينيون اليوم مثلاً، يموتون بقصف طائرات الإف 16 ومروحيات الأباتشي، وأميركا تقف ضد حقن الدماء هناك. والعراقيون يعانون من احتلال بغيض، ظنناه في أول الأمر تحريراً، لسذاجة منا ربما، أو اعتقاداً أن لدى أميركا خطة، فتبين أنها تضرب خبط عشواء. احتلال لا يبحث عن الديموقراطية في العراق، بقدر ما يبحث عن دولارات سائبة، أو شيء من نفط كريه الرائحة، أو فرض هيمنة ضد إرادة الشعوب. لا نريد الغوص في عمق التاريخ لنبين كم كانت أميركا ظالمة وقامعة وغير متفقة مع مبادئها، حين ساندت الطغاة، مثل محمد رضا بهلوي وباتيستا وسالازار وغيرهم، وتلاعبت بالأمم، كما فعلت في كوريا وفيتنام مثلاً، وتجاهلت الشعوب، كما في حالة تشيلي ودول عديدة في أميركا اللاتينية، حين انقلبت على ديموقراطية رفعت لواءها، وبحثت عن مصالحها الآنية فقط، كما في بنما وكوبا وغيرهما، فكسبت عالماً بأسره ربما، ولكنها خسرت نفسها ومبادئها، فكان كره العالم عميقاً لها، أو بعد ذلك يتساءل الأميركيون: «لماذا يكرهوننا؟». نعم، لا نريد الغوص عميقاً في بطن التاريخ سيادة الرئيس، فثماني سنوات من حكم الرئيس جورج بوش الصغير كافية لمعرفة كامل القصة، وهي في ظني أسوأ ثماني سنوات في التاريخ الأميركي المعاصر. نعم، العالم يكره أميركا، الدولة وليس المجتمع، لأنها، وبكل بساطة، منافقة واستغلالية في الوقت ذاته. تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر. تضمر شيئاً وتنادي بشيء آخر. تتحالف مع أحدهم، ثم لا تلبث أن تتخلى عنه، وربما انقلبت عليه، حين يُصبح عبئاً عليها. تستغل طموحات الشعوب، وتلفظها عندما لا تحتاج لها، كما حدث مع الأفغان وغيرهم.

سيادة الرئيس، الثلاثاء القادم، العشرون من شهر يناير لعام 2009، سوف تصبح رئيساً لأميركا، وليس لي إلا طلب واحد وهو أن تجعل شعارك الانتخابي «نعم نستطيع» شعاراً لكل العالم، وليس لأميركا وحدها. نعم نستطيع أن نحقق حقوق الإنسان في العالم أجمع. نعم، نستطيع أن نجعل الإنسان هو المعيار في هذا العالم. نعم نستطيع أن نجعل المساواة هي المرجع في كل العالم. نعم، نستطيع أن نجعل خير الأرض للناس أجمعين. أنا أعلم أنك كشخص، حتى لو كنت رئيساً لأميركا، غير قادر على أن تفعل كل ذلك لوحدك، فأنت جزء من نظام سياسي لا يعطيك حرية الفعل تماماً. وحتى لو كنت مطلق اليدين تماماً فلن تستطيع أن تشق البحر، كما فعل موسى، أو أن توقف الشمس كما فعل يوشع بن نون، أو أن تحيي الموتى، كما فعل المسيح، أو أن تشق القمر، كما فعل النبي، ولكنك قادر على أن توقد الشرارة الأولى، وتجعل العجلة تبدأ في الدوران.

في أحد الأفلام الأميركية، لا أذكر اسمه حقيقة، يلجأ أحد المرشحين للرئاسة الأميركية إلى انتقاء رجل أسود فقير ومعدم لا قيمة له، ليكون منافسه في الانتخابات، وذلك لإضفاء الإثارة على السباق، وتدعيماً شعبياً للمرشح الأبيض حين يسحقه في الانتخابات. ولكن السحر ينقلب على الساحر، ويفوز الأسود في النهاية كأول رئيس أسود للولايات المتحدة الأميركية. الفيلم جميل وفكاهي، وإن حمل بعض التراجيديا، ولكن أكثر ما أثار إعجابي هو المناظرة التي جرت بين المرشحين، فحين أراد المرشح الأبيض أن يعدد مناقبه، اتهم الأسود بقلة الخبرة، في مقابل احترافيته، وبأنه من أصول متواضعة، ثم ختم بتلك المقولة التي يختم بها السياسيون الأميركيون خطبهم عادة بالقول: «وليبارك الله أميركا GOD BLESS AMERICA ». كان رد الأسود هو أنه فعلاً ليس من السياسيين المحترفين، ولذلك فإنه صادق. وليس من أصول ارستقراطية، لذلك فإنه يعرف ما يريده عامة الشعب. وفي النهاية قال لماذا لا ندعو إلا لأميركا، فأميركا مباركة، ولكن لنقل بارك الله في بورتريكو، و.. و.. لم لا نقول بارك الله في كل العالم، وضجت القاعة بالتصفيق. نعم يا سيادة الرئيس، ليبارك الله كل العالم، ولتكن أميركا جزءاً من العالم وليس كل العالم. إذا نظرنا إلى أنفسنا كشركاء متساويين في الإنسانية على هذا الكوكب، فنحن نستطيع أن نحوله إلى جنة من السلام والرفاه والأخوة الإنسانية، فنعم نستطيع.. ومن خلالك يمكن أن تكون الخطوة الأولى، كما كانت خطوة باركس، وكما فعل إبراهام لنكولن، مثلك الأعلى، ونقش اسمك في سجل الإنسانية، لا بقوة العساكر والسلاح، ولكن بقوة المبادئ والسلام.. وليبارك الله الإنسان في كل مكان..