العراق: خطاب الإصلاح بديلا عن خطاب المصالحة

TT

مع مفترق الطرق الذي اقتربت منه العملية السياسية والتحولات الواضحة في الوضع السياسي، صار لزاما علينا مراجعة بعض المفاهيم التي احتلت مكانة بارزة في الخطاب السياسي الداخلي خلال السنوات الأخيرة، وأبرزها مفهوم المصالحة.

لقد تم استدعاء هذا المفهوم في مرحلة كان خلالها جوهر العملية السياسية مهددا بلا يقينية واضحة، وكانت آفاق الوضع العراقي مفتوحة على كل الاحتمالات. وجاءت فلسفة المصالحة تعبيرا عن حاجة داخلية وخارجية، فالنظام السياسي الجديد واجه تشكيكا استند في جوهره على أنه نظام انبثق عن «الاحتلال»، وبالتالي لا يمتلك شرعية داخلية، وكانت المفارقة أن غالبية من تبنوا هذه الرؤية هم أحزاب وهيئات وشخصيات، لم يعرف عنها تاريخيا ولا يستشف من آيديولوجياتها، أنها كانت تحفل يوما بقضية الشرعية، وهي غالبا ما تميل إلى ازدراء الشرعية الدستورية والاعتكاز على المشاعر الشعبوية غير المنضبطة في مناغمة لسلوك الأحزاب الثورية العربية تقليديا.

غير أن المشكلة لم تكمن في خطاب هذه المجموعات، بل في أنه كان يحظى بقبول لدى أحد المكونات الاجتماعية الرئيسية، مما أنتج حاجزا بين حاجة النظام الجديد إلى احتواء كل المكونات، على الأقل انتصارا لخطابه المعلن عن التعددية، وبين تلكؤ وامتناع المكون السني عن الدخول في لعبة النظام الجديد، وهو ما تجلى في تصويت المحافظات السنية ضد الدستور العراقي. لذلك جاء خطاب المصالحة ليعبر عن الحاجة إلى احتواء المكون السني ودمج ممثليه الاجتماعيين - السياسيين في النظام عبر الوصول إلى توفيقات تسمح بهذا الدمج، وبالطبع كان ضغط الأميركيين والنظام الإقليمي العربي بنفس الاتجاه عاملا مهما لرفد فكرة المصالحة. وتدريجيا صار المكون السني، لا سيما بعد انتخابات مجلس النواب عام 2005، جزءا من النظام السياسي الجديد مع نسبة مشاركة انتخابية عالية سجلت في المحافظات ذات الغالبية السنية لا سيما صلاح الدين والموصل، وعملية الدمج ستكتمل في نهاية هذا الشهر مع انتخابات مجالس المحافظات التي ستسمح لأول مرة للناخبين في المحافظات ذات الغالبية السنية باختيار ممثليهم المحليين الأمر الذي سينتج صعود قوى اجتماعية – سياسية جديدة في مقدمتها العشائر العربية، ومع الانتخابات البرلمانية مطلع العام المقبل سيكون بإمكان القوى الجديدة الدخول كرقم جديد في تحديد السياسة العامة للدولة واختيار الحكومة.

مع هذه التطورات تنتفي الحاجة الموضوعية لاستدعاء مفهوم المصالحة، ويصبح استخدام هذا المفهوم جزءا من الخطاب الآيديولوجي المعبر عن مصالح لجماعات معينة ولأطراف خارجية تكمن مشكلتها في النظام نفسه، أي في الانتخابات كوسيلة لإنتاج التمثيل السياسي والتعبير عن الشرعية. فلأن المصالحة هي عملية توفيقية قائمة على المساومة فإن استخدامها كآلية مع قوى لا تؤمن أصلا بفلسفة النظام الديمقراطي سيؤدي إلى تشويه هذا النظام وإنتاج مخارج «غير ديمقراطية» تحت عنوان المصالحات، وفي الحقيقة أن من بقي يركز على مفهوم المصالحة هي بعض الجماعات الباحثة عن دور في داخل السلطة، ولكنها لا تمتلك القدرة على استحصال هذا الدور عبر الآلية الانتخابية، فتسعى إليه عبر التحالفات الخارجية والخطاب الإعلامي المشكك بالنظام نفسه والخالي من أي بديل حقيقي بناء.

من هنا، ندرك أن خطاب المصالحة يجب أن يخلي مكانه لخطاب جديد هو الإصلاح. فكون جميع المكونات الاجتماعية – السياسية قبلت بالمبادئ العامة للنظام الجديد وبالانتخابات كوسيلة لتداول السلطة واكتساب المشروعية، لا يلغي حقيقة أن النظام يظل بحاجة إلى إصلاحات تعبر عن رؤية العناصر التي دخلته حديثا وكانت همشت أو اختارت أن تهمش نفسها سابقا وبحسب حجم ثقلها داخل النظام، وهذه العملية لابد أن تحصل بطريقة طبيعية لأن النظام الديمقراطي يحمل في داخله آليات تجدده وتطوره، وسيكون سعي بعض القوى المستفيدة إلى تجميد النظام وإعاقة تطوره نوعا من الانقلاب على الديمقراطية تؤدي لاحقا إلى ضرب النظام من الداخل. من هنا أقول إن هناك تحديين أساسيين سنشهدهما في المرحلة القادمة، الأول هو مواصلة انفتاح العملية السياسية على دخول لاعبين جدد بلا شروط غير التزام اللعبة الديمقراطية وقواعدها، والثاني هو عدم تحول الصراعات داخل النظام إلى صراعات مهددة لوجود النظام نفسه. فالخلافات التي أخذت تظهر داخل الكتل والتحالفات القائمة والتفككات المستمرة لتلك التحالفات، تعبر عن ديناميكية طبيعية مصدرها هذا الاتساع المستمر للنظام ودخول اللاعبين الجدد وبروز قضايا بديلة عن تلك التي هيمنت سابقا على العملية السياسية. ونلحظ اليوم بروز استقطابات مرتبطة بعملية بناء الدولة كذلك الاستقطاب بين رؤية أخذ المالكي يتبناها وتقوم على الدعوة لحكومة مركزية قوية، وبين الرؤية التي تميل إلى إيجاد أقاليم قوية في نظام فيدرالي لا يسمح بتسلط المركز مجددا وهو موقف يتبناه التحالف الكردستاني والمجلس الإسلامي الأعلى. مثل هذا الصراع لا يمكن حله في ظل البرلمان الحالي، لأنه تشكل استنادا على أجندة مختلفة، حكمتها بشكل رئيسي استقطابات الهوية الإثنية والطائفية، لكنه بعد أن أخذ يتجاوز الطبقة السياسية إلى الشارع وصار جزءا من مدركات واهتمامات الناخبين، سيغدو قضية رئيسية في الانتخابات العامة المقبلة وستكون نتيجة الانتخابات تعبيرا عن أي من المدرستين أقرب إلى مزاج غالبية الناخبين. الخطر يكمن في أن يتحول الصراع من صراع داخل النظام إلى صراع على النظام، يؤدي إلى تفكيكه وانهياره.

ما لا يقل أهمية في فكرة الإصلاح، هو ضمان أن تكون الانتخابات آلية أصيلة وعادلة للتعبير عن الإرادة العامة، وبالتالي العمل على ضمان نزاهتها وإدارة عملياتها وتطوير نظمها بطريقة تسمح لتلك الإرادة باستحصال التمثيل الأسلم. إن أي افتئات على سلامة العملية الانتخابية وحياديتها ومواقيتها المقررة سيبقي مشروعية النظام السياسي في محل الشك، ويفتح مجالا، ليس فقط لشرعنة خطاب القوى المعادية للديمقراطية، بل وأيضا لنكوص قوى عنها بعد أن قبلتها سابقا.