أحلام وأفلام

TT

يقولون لك عِش في الواقع ولا تسرف في الخيال. ولكن ماذا تفعل إن أصبح الواقع وحشاً كاسراً يتأهب لمص دماء الأمل في عروقك؟ إما أن تطلق الواقع طلاقاً بائناً وتتشبث بالخيال العذب لكي تقتنص لحظة هناء من بين فكي الوحش، وإما أن تكتشف لنفسك موقعاً وسطاً بين الواقع البشع والخيال الفاتن.

أعتقد أن إنسان هذه الأيام لا خيار له إلا عقد هدنة بين الواقع والخيال لكي لا تذوي إرادة الحياة وتغيب شمس الأمل.

مازلت أحلم بانتصار غزة فتجرفني نشرات الأخبار بصور لا يصدقها العقل وتقارير تجف من وقعها آبار الأمل الضاربة في عمق اليقين. بالأمس جرتني ابنتي جرا من أمام شاشة الكمبيوتر وأكوام الصحف في محاولة للهرب من واقع المعركة في غزة. أغرتني بمشاهدة فيلم يثني النقاد على مخرجه، داني بويل، لأنه استطاع المزج بين الكوميديا والتراجيديا في عمل واحد وكأن بطله يخرج لسانه للواقع قائلا: سأعيش وأسعد وأثرى رغم أنف الواقع الأليم. استسلمت لدعوتها رغم أن عنوان الفيلم «كلب الحواري مليونير» لم يجذبني البتة.

ولكن ما إن أطفئت الأنوار حتى خرجت من مكامنها ذكرياتي عن أوليفر تويست وأمثاله من أبطال روايات تشارلز ديكنز، الذين مزجت سيرهم الروائية بين رومانسية الأساطير وكوابيس الواقع الذي يعيشه أطفال الشوارع بحثاً عن الحب في حواري المدن القاسية. واقع يفضي إلى نهايات سعيدة يكافأ فيها المستحق ويعاقب المجرم بالهزيمة والموت. مسرح روايات ديكنز هو لندن، ومسرح بويل هو مومباي الهندية، وهدف الرؤية الساخرة هو برنامج من سيربح المليون، الذي يقدم للمشاهدين في العالم درسا في أوهام الثراء السريع.. بداية ديكنزية ملونة بألوان الشرق حين تطوف الكاميرا بحواري مومباي وبيوت الصفيح التي يحتمي بها المعذبون في الأرض. ثم يموتون بدون أن يعبأ أحد.

جمال البطل يقف عند حافة الثراء حين تدفع به الصدفة إلى كرسي المليونير في استديوهات مومباي. ولكن مقدم البرنامج يعتقد بأن كلب الحواري لا يمكن أن يفوز إلا إذا كان غشاشا. فيتآمر مع مدير الشرطة على تلقين المتسابق درسا لا ينسى. وبناء على ذلك يلقي القبض على جمال ويجرد من ملابسه ويعلق من رجليه ويعذب بالسلك الكهربائي أملا في استخلاص اعتراف بالغش. وحين يصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت يخاف مدير الشرطة من العواقب ويأمر بإخلاء سبيله على أن يستجوبه مرة أخرى لمعرفة سر المعلومات العامة.

ومن هنا تبدأ المفارقة حين يروي جمال للشرطي أن إجابة كل سؤال لها ذكرى حية في مخيلته مرتبطة بحب البقاء، وأحدها سؤال: من اخترع المسدس؟ وفي السياق السردي يقدم الواقع نفسه كأرجوحة تهوي لحظة نحو القاع المظلم لترتفع في اللحظة التالية إلى آفاق المشاعر الملائكية. وهو السياق الذي يعلّم كلاب الحواري فلسفة البقاء وكسب العيش والتحايل على الظروف وعلى عصابات تستغل الأطفال في التسول والبغاء. والنصر هو لحظة سمو يصحو فيها الإيمان بقدر عادل.

الفيلم يقدم رؤية لاستسلام الهند لسطوة المال والدولار وتجاور تلك التحولات مع ثقافة قدرية تلهم المظلومين أحلاما ملونة بألوان قوس قزح حتى في أحرج الأوقات.

خرجت من دار العرض وقد تجدد في نفسي الأمل رغم بشاعة ما أسمع وما أرى كل يوم على طريق النصر.