القلوب الخضراء

TT

وردتني هذه الرسالة من الأستاذ (رؤوف قبيسي)، المقيم في لندن ببريطانيا، وكنت قد فقدتها، غير أنني قبل أيام، وبينما كنت (أنعبش) في أوراقي وجدتها، وأردت أن تشاركوني في قراءتها. وإنني أنشرها دون أي تعليق، معتذرا عن التأخير.

«قرأت مقالتك المنشورة في «الشرق الأوسط» يوم السبت الماضي تحت عنوان «الفرق بين متدين اليوم ومتدين الأمس»، قرأتها غير مرة وأنا مسافر في القطار بين لندن وإحدى قرى الريف. أعجبتني مقالتك تلك وأثارت في نفسي شجونا أي شجون، أنا المغترب عن بلدي منذ أكثر من ثلاثين عاما. أعجبني بنوع خاص حديثك عن متديني الأمس، أولئك الذين كانوا مؤمنين حقا ولم يكونوا متدينين متعصبين، وهذا في الحق هو السبب الذي يدفعني الآن للكتابة إليك مثنيا ومقرظا.

نعم، هكذا عرفت الناس في بيروت، مدينتي ومسقط رأسي ومنشئي. وهكذا عرفت مصر في فترة الستينات. كانت قلوب الناس مفعمة بالأمل، عامرة بإيمان صادق عفوي، ولم يكونوا بحاجة إلى برامج دينية تبثها فضائيات، أو إلى صحف ومكبرات صوت وأحزاب وبنادق. وكانت أصوات المساجد رخيمة حنونة تشد المارة إلى الله برقة ولطف، وفي أصوات مؤذنيها دعوة إلى الغفران.

كنت ولا أزال علمانيا، وهكذا كان أشقائي، إلا أنني لا أذكر أن الله غاب يوما عن بيتنا القديم في بيروت. فقد كان والدي مسلما وكانت والدتي مسلمة. عاشا مسلمين وماتا مسلمين، من دون أن يكون في قلبيهما شيء من حسد أو ضغينة على أحد، وبقيا يصليان ويذكران اسم الله حتى آخر نحب من أنحابهما. لم يتذمرا يوما من أصواتنا على رغم ما كان فيها من نزق الصبا، أو من مكتبة بيتنا التي كانت تضم على رفوفها، إلى جانب القرآن وكتب السيرة، نسخا من الأناجيل والتوراة، ومؤلفات طه حسين وعلي عبد الرازق وسلامة موسى وأنطون سعادة وعشرات الكتب «المحرمة» في الفكر والنقد والفلسفة، مثل كتاب «أصل الأنواع» لداروين وكتاب «رأس المال» لكارل ماركس ومؤلفات برتراند راسل.

كان والدي يأخذ أفكارنا بمرح ويتقبل خيالنا المتمرد بقلب عطوف لأنه كان مؤمنا متسامحا، مثل الناس البسطاء الذين يقضون عمرهم مع الله من دون أن ينتظروا الأجل لينتقلوا إلى جواره. هكذا عاش والدي وعاش أعمامي وأخوالي، هكذا كان جارنا أبو سليم وجارنا الآخر أبو كامل، وغيرهما من الذين طوتهم الأيام، لكنها لم تطو ذكرياتنا عنهم.

كانوا يتقبلون الرأي الآخر والمذهب الآخر، قبل أن تقرع آذانهم عناوين العولمة وحوار الأديان. وكانوا من ذلك الجيل الذي وصفت «بشوش قلبه أخضر، لا يتحرج من قول أشعار الغزل والتفكه والتندر، وإذا حان وقت الصلاة كانوا أول الداخلين إلى المسجد».

هكذا فليكن الإيمان أو لا يكون.

سقا الله تلك الأيام، فما أبعدنا عن زمانها الأخضر».

[email protected]