نجاد.. مقابل الإمارات

TT

من سخرية القدر، أن دخان الحرب المتصاعد في سماء غزة قد جعل الأمور أكثر وضوحا وصفاء. العرب اليوم هم وقود لحروب غيرهم من الدول غير العربية. التنافس على النفوذ في المنطقة يتم على أجساد العرب من الأطفال والنساء والشيوخ. في كل المناطق الملتهبة من العالم العربي تدور حروب وقودها العرب، لكنها حروب لا ناقة للعرب فيها ولا جمل ولن تخدمهم أو تفيدهم لا في المدى القريب ولا البعيد. ففي العراق حرب بين أميركا وإيران وقودها عرب العراق، وقامت في لبنان صيف 2006 حرب بين إسرائيل وإيران بالوكالة كان وقودها عرب لبنان، ورغم الخصوصية التاريخية للقضية الفلسطينية ووجود إسرائيل كقوة احتلال جاثمة، فحرب غزة أيضا في أحد وجوهها هي مواجهة غير مباشرة بين إسرائيل وإيران بالوكالة، واختبار للقوة الإقليمية بينهما.

انظروا من حولكم إلى المشهد الاستراتيجي لتعرفوا حقيقة ما أقول، ثلث الدول الأعضاء في الجامعة العربية إما دول فاشلة أو في طريقها الأكيد إلى الفشل إن لم تتخذ قرارات جدية وحاسمة في أمورها. الصومال دولة من ضمن دول الجامعة العربية، وقد يكون لها علم إلى جوار أعلام الدول العربية في قاعات الاجتماعات، هي دولة فاشلة بامتياز تسيطر عليها الحرائق منذ أعوام، وقد تندر كثير من العرب حول رفضها أو قبولها لدعوة اجتماع الدوحة حول غزة. السودان، علم آخر إلى جوار أعلامنا، دولة فاشلة بامتياز، ورئيسها يحاول أن يقنعنا بمشاركته في اجتماع الدوحة بأنه متأثر لموت ما يقرب الألف إنسان في غزة، بينما هناك ربع مليون سوداني من أبناء شعبه قد قتلوا بدارفور في عهده الآمن الرشيد. العالم العربي اليوم يحتاج إلى فتح أبواب المصارحة على مصراعيها، حتى لو أتت بالرياح العاتية. ولعل القادة العرب المجتمعين في الكويت يبدأون جادين بفتحها.

لب الداء والدواء في العالم العربي كان ولا يزال في القضية الفلسطينية. العرب ضفروا مصائرهم في جدائل القضية الفلسطينية، وتمركزت المشاعر الوطنية الجمعية لديهم حول هذه القضية. فلما انشق الصف الفلسطيني بين قيادة حماس وقيادة فتح، كاد الصف العربي بأكمله ينشق بين معتدلين وممانعين، ربما هذا هو جوهر الانقسام العربي الذي نراه اليوم. الانشقاق في القضية المركزية بالنسبة للعرب أدى إلى انشقاقهم والعكس صحيح تماما. حركة حماس مسؤولة بشكل كبير عن هذا الانشقاق الفلسطيني، ذلك عندما قررت في الخامس عشر من يونيو عام 2007، أن توقف أي مفاوضات مع حكومة الوحدة الوطنية واستولت على غزة بقوة السلاح وألقت بالفلسطينيين من جماعة فتح أحياء من فوق أسطح البنايات. وقتها دخل الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني مرحلة مفزعة لم يدخلها من قبل منذ أن بدأت الدراما الفلسطينية مع النكبة عام 1948، وقيام الثورة الفلسطينية عام 1965، وتجمع هذه الثورة في الأردن ومن ثم توجهها إلى الساحة اللبنانية، وبعد ذلك انتقال قيادتها ومعظم كوادرها إلى تونس وغيرها، حتى قيام السلطة الفلسطينية عام 1994.. كان الهدف دائما بالنسبة إلى الفصائل الفلسطينية جميعها، هو تحرير الأرض وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وكان العدو دائما هو إسرائيل مهما كان حجم الاختلاف كبيرا بينها. الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني اليوم مختلف عن أي اقتتال سابق، والقضية الفلسطينية تمر بمرحلة هي الأخطر في تاريخها، تعقدها التجاذبات الرسمية العربية التي ترى في قضية فلسطين أداة لدور وليس قضية يجب أن تحل. هذه التجاذبات العربية التي نشهدها اليوم، والكلام الجارح المتبادل بين الدول العربية بعضها البعض، وبين التيارات المختلفة في المجتمعات العربية هي نتيجة لحالة العجز السائدة بيننا، وهي دليل هزيمة وعجز نشعر بهما جميعنا، قادة وشعوبا. ففي نظريات السياسة، بدلا من أن يتوجه المهزومون بالمقاومة الرأسية تجاه من يذيقهم سوء العذاب، يتجهون إلى المقاومة الأفقية وتمزيق بعضهم البعض، في حالة من الردح كما يحدث في الحواري، هذا ما سماه البعض ممن لم يدركوا ظاهرة القوة ونتائج ضغط القهر على المقهور، بنظرية «فرق تسد»، لم يكن الاستعمار أيامها يقوم بعملية «فرق تسد»، التفرقة كانت تأتي نتيجة لتحول المقاومة من الحالة الرأسية (أي مقاومة المحتل) إلى الحالة الأفقية التي يعاير فيها المظلومون بعضهم البعض، يتهمون بعضهم البعض بالعمالة والخيانة.

على القادة العرب الذين يجتمعون في الكويت اليوم، أن يتخلوا عن نغمة التلاسن هذه ورسم البطولات الزائفة، كما عليهم أن يتخلوا هذه المرة عن عاداتهم السابقة في الاعتماد على تصورات دبلوماسية جاهزة بعضها لإلهاء الشارع العربي والبعض الآخر لكسب نقاط بطولية وهمية في معظمها، تقوم بها دول صغيرة ضد دول كبيرة والعكس صحيح. لا بد للقادة العرب أن يترفعوا عن مراهقات الحركات الثورية ويثبتوا للعالم أنهم رجال دول من الطراز المحترم، وأن يتخلوا عن الخطابات الإعلامية الطنانة المعدة لدغدغة المشاعر وخطب ود الشارع بدلا من قيادته وتوجيهه. أمام القادة العرب نافذة فرصة، وخصوصا بعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة، أن يتصرفوا بناء على رؤية استراتيجية مستقاة من قرار سيادي يعكس رؤية دولهم ومطعمة بخبرتهم كمسؤولين ملمين بسيناريوهات الأمن الإقليمي.

استاء البعض من انعقاد قمة الكويت الاقتصادية في هذا الظرف الراهن من القتل والدمار الحادث في غزة. ولكن يجب ألا يغيب عن الأذهان أنه إذا نجحت قمة الكويت في التركيز على الاقتصاد والتعليم في العالم العربي وقدمت خططا وآليات مستقبلية ممكنة لتطويرهما، فإنها ستكون مقدمة لدواء ناجع على المستوى البعيد لحالة الفقر النفسي والفكري والمعيشي التي يعاني منها الإنسان العربي. الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية للمجتمعات العربية والتي تحاصر حاضرها ومستقبلها وتقضي على حقها في الحياة الكريمة وحلمها بغد أفضل، هي البيئة الخصبة التي تؤهل للاستقواء بلا حدود على هذه المجتمعات من قبل قوى طامعة، سواء أكانت داخلية قمعية أو خارجية استعمارية. الفقر والجهل والأمراض هي التي أوصلتنا إلى حالنا هذا بما فيها الاحتلال. الاحتلالات لا تأتي لمجرد وجود قوة تريد احتلالنا، وإنما الاحتلال يأتي أحيانا لأننا لدينا، كمجتمعات، قابلية الاحتلال نتيجة لسيطرة الجهل والضعف على عقولنا، حكاما ومحكومين على حد سواء.

وأخيرا، وعلى هامش اجتماعات الدوحة الخاصة بغزة، قالت قطر على لسان وزير خارجيتها ورئيس وزرائها، عندما سئل في مؤتمر صحافي ختامي عن تغيب دولة الإمارات العربية بعدما كان حضورها مؤكدا، أجاب الوزير القطري إن دولة الإمارات قد تخلفت عن اجتماعات الدوحة الخاصة بغزة لأنها (أي الإمارات) اشترطت عدم حضور الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لهذه الاجتماعات. وقال الوزير القطري إنه يتفهم الموقف الإماراتي، وأنه معهم (الإماراتيون) حق، في إشارة طبعا لكون إيران ما زالت تحتل ثلاث جزر إماراتية إلى يومنا هذا. إذن، كان لدى قطر الخيار الواضح بين حضور دولة الإمارات العربية أو حضور إيران لاجتماعات تناقش ما يجري في غزة، فاختارت.. فهل نحن الآن، على سبيل المزاح الذي يشبه الجد، أمام مرحلة جديدة بصيغة «نجاد مقابل الإمارات»، على غرار صيغة «الأرض مقابل السلام» مثلا؟!