ماذا يمكن أن تفعلوا؟

TT

خلال الغزو الأميركي للعراق ظهر مصطلح «Embedded Journalism» أي «الصحافة المرافقة للقوات»، وكانت تلك الصحافة هي التي رضيت طوعاً بالرقابة العسكرية بحيث توفّر لها القوات الغازية الحماية، بشرط أن تنشر هذه الصحافة ما توافق عليه قيادة هذه القوات. وقد فوجئ العالم، أو بعضه، بهذا الانتهاك الخطير لحرية الصحافة التي طالما تغنّوا بها في الغرب، واعتبروها إحدى أهمّ سمات الأنظمة الديمقراطية. أما الصحافة التي رفضت الانضواء تحت قيادة القوات فغالباً ما استُهدفت، وقد استشهد عدد كبير من الصحافيين الشرفاء الذين غامروا بحياتهم من أجل إيصال الحقائق إلى ضمير العالم في كلّ أصقاع الأرض. وقد برهنت الأرقام التي ظهرت بعد ذلك أن عدد الصحافيين الذين استشهدوا في العراق فاق أيّ نسبة لاستهداف الصحافيين في أيّ حرب سابقة، وقد كان واضحاً من تاريخ وأعمال الصحافيين الذين استشهدوا أنهم كانوا مقصودين ومستهدفين، ولم يستشهد أحد منهم بطريق الخطأ.

أما اليوم، وفي آخر عدوان على العرب، وفي غزة هذه المرة، كان المدنيون من أطفال ونساء غزة المحاصرة هم الضحايا، فقد قامت قوات العدوان الإسرائيلية بالإعداد الإعلامي لتغطية جرائمها ضدّ أطفال غزّة حتى قبل أن تبدأ بارتكاب جرائمها الوحشية، وصاغت الرسائل، وأوفدت المبعوثين إلى الدول العربية والغربية لشرح ذرائع الكيان الصهيوني التي تدفعه للقيام بهذا العدوان، والذريعة هذه المرة صواريخ حماس. لكنّ الوحشية المعروفة لدى حكام إسرائيل تجاوزت نفسها، ففي هذه المرّة قامت عصابة ليفني – باراك – أولمرت بما هو أشدّ وأدهى من «الصحافة المرافقة للقوات» إذ منعت الإعلام العالمي من التواجد في غزّة، ولم يوفّر لأيّ إعلامي الحماية من أجل التغطية منعاً لوجود شهود عيان على جرائم يندى لها جبين البشرية. لا بل إنّ الإجرام الصهيوني قد استهدف البرج الذي يتواجد فيه الإعلاميون علناً بفضل التغطية التي يوفرها التملّق الغربي المعهود للوبيات الصهيونية، والتمويل الصهيوني للعديد من السياسيين والإعلاميين في الغرب. كما قامت بسحب الهواتف المحمولة حتى من عناصر جيشها المعتدي كي لا يتمكّن أحد من إعطاء صورة ما يجري من إبادة لأطفال غزّة للخارج، وبذلك أحكم حكّام إسرائيل حصاراً إعلامياً على شعب محاصر منذ سنوات ونزل به جيشهم بطشاً وقتلاً ونهباً وإحراقاً بالقنابل الفوسفورية المحرّمة، وبلغ عدد الشهداء والجرحى أكثر من ستة آلاف، وقد يكون الرقم تجاوز ذلك لدى ظهور مقالتي هذه يوم الاثنين. ومع ذلك فإنّ الإعلام العالمي، الذي يستنفر عادةً لتغطية حادث تصادم بين قطارين، لم يقطع برامجه، ولم يستنفر ولم يتوقّف لينشر لنا صور العوائل التي تباد بالصواريخ الإسرائيلية عن بكرة أبيها، ولا صور مئات الأمهات والأطفال وهم يحرقون نياماً في منازلهم بالقنابل الإسرائيلية، ولا صور المدارس وحتى تلك التابعة للأمم المتحدة التي قامت الطائرات الإسرائيلية، أميركية الصنع، بقصفها عدة مرات لقتل المزيد من الأطفال، ولم نرَ صور الرعب والموت والدمار تحلّ بشعب أعزل محاصر منذ سنتين من قبل قوة إرهابية مدجّجة بأحدث الأسلحة وبالكراهية والوحشية مطلقة العنان التي اعتادت على ارتكاب المجازر والقتل والبطش والاستيلاء على الأرض وتهجير السكان بتغطية سافرة من عدو العرب الأول الولايات المتحدة وحلفائها المتحضّرين في أوروبا. ولم تظهر في الصحافة الغربية أو وسائل إعلامها صورة واحدة لجنود الإرهاب يسرقون مصاغ النساء الفلسطينيات، ويصادرون أغذيتهن ويأكلونها أمام أطفالهن ليحرموا الأطفال من الغذاء والماء، وهم يستبيحون كلّ ما يحلو لهم في غزّة الجريحة المحاصرة بالجريمة الإسرائيلية وبالشقاق العربي. ولمن يريد المقارنة بين ما الذي يتوجّب فعله في مثل هذه الحال وماذا كان يفعل الإعلام العالمي حين يقوم فلسطيني بتفجير نفسه في حافلة ركاب أو مقهى إسرائيلي، فليتذكر كيف كانت الصور تبقى في الإعلام العالمي عدة أيام، ويكتب الصحافيون عن كلّ إسرائيلي قُتل وعن حياته وطموحاته قبل أن يقتل ومشاعر أهله، وما إلى ذلك مع إعادة لتراث المحرقة ومعاناة اليهود. أما اليوم فنحن نشاهد آلاف الأطفال والنساء يذبحون علناً ويومياً نتيجة استخدام حكام إسرائيل الأسلحة المحرّمة والقنابل الفوسفورية، ولا يسمح لهؤلاء بمغادرة القطاع للعلاج في أيّ بلد من بلدان العالم، الأمر الذي يتناقض مع كلّ الأخلاق والأعراف والقوانين والمواثيق الدولية، وكلّ هذا «العنف» لا يثير في السياسيين والإعلاميين الغربيين سوى ما يسمونه «القلق»، وهم الذين يثرثرون دون انقطاع عن حقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة.

ورغم كلّ هذا، فإن الإعلاميين الغربيين لم يعترضوا على حرمانهم من الدخول إلى غزّة حيث تجري أبشع الجرائم ضدّ المدنيين لأكثر من ثلاثة أسابيع دون هوادة، ولم أقرأ مقالة واحدة تدين هذا الحصار الإعلامي الشنيع ويجري التعتيم المطلق على الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحيث يبقى مرتكبوها في منأى عن العدالة، ويبقى الضحايا من دون علاج. إنّ التفسير الوحيد لهذا الموقف هو الشعور العنصري الغربي المعلن أو المدفون تجاه العرب بحيث إنّ دماءهم لا تساوي الدم الإنساني للآخرين وحياة أطفالهم ونسائهم ورجالهم لا تكتسب في نظر العالم «المتحضّر» القيمة ذاتها لحياة أطفال ونساء ورجال آخرين، وقد يكون هذا الموقف هو امتداد للعنصرية الإسرائيلية تجاه العرب حيث يطلّ سكان سديروت على تلة باراش والتي كانت متنزهاً في الأيام الهادئة ليستمتعوا بصور القصف الوحشي والدمار الذي حلّ بغزّة، ويبلغون أقصى درجات سعادتهم وهم يراقبون طائرات إف 16 تلقي بحممها من القنابل الفوسفورية على الأطفال المذعورين. كما أنّ عنصرية الصهاينة مثل ليبرمان ونتانياهو وغيرهما دعت إلى «قصف غزّة بقنبلة نووية». لم يتسرب إلى قادة الرأي الغربي، كما يتسرب عادةً، أيّ تهديد مماثل لإسرائيل، بحيث لا يقيمون لدماء الأطفال والنساء العرب وزناً ولا ينشرون صور ضحاياهم، ولا يغضبون حتى لعدم قدرتهم على تغطية الحدث من مكان الحدث، هذا إذا ما اعتبروه حدثاً مهماً على كلّ حال. والجانب الآخر من العنصرية تجاه العرب، والانحياز الشديد لكلّ ما تقوم به الطغمة المجرمة في إسرائيل هو إحجام الصحف والقنوات العالمية عن تغطية المظاهرات التي عمّت مدن وعواصم العالم مندّدة بالهجوم الإسرائيلي الوحشي على الشعب الفلسطيني، وقد عبّرت الجاليات والجمعيات المناهضة للحرب والعنصرية عن استيائها الشديد من هذا الانحياز الإعلامي، حيث خرجت في واشنطن مثلاً مظاهرة ضدّ الواشنطن بوست من قبل جمعية «أوقفوا الحرب والعنصرية» بسبب انحيازها لإسرائيل في تغطية المجازر الإسرائيلية ضدّ المدنيين في غزّة، متجاهلة تماماً كلّ الأنشطة المناهضة للعدوان التي شهدتها الولايات المتحدة مؤخراً. إذاً العنصرية تجاه العرب، والانحياز للعدوان تمثلت في عدم الاعتراض على منع الإعلام منعاً باتاً من البقاء في غزّة، والاعتداء على من بقي. وثانياً في الانحياز الكامل للدعاية الإسرائيلية حول صواريخ حماس، وتجنّب الإشارة إلى الصواريخ الإسرائيلية وإلى الحصار الإسرائيلي على المدنيين، وتجاهل تام لمعاناة ضحايا الجرائم البشعة التي ترتكبها إسرائيل ضدّ المدنيين العُزّل في غزّة. وثالثاً من خلال عدم تغطية المظاهرات المناهضة لهذا العدوان والتركيز على بضعة أصوات تتحدث عن أمن إسرائيل، وتعزف على الأسطوانة المشروخة للخطر المحدق بإسرائيل من «صواريخ حماس». وقد أضافت قوى العدوان على كلّ هذا التركيز الإعلامي والذي هو جزء أساسي من الحرب على غزة إنتاج أفلام قصيرة عمّا ينتاب الإسرائيليين من «خوف» وهم في الملاجئ والأخطار المحدقة بهم نتيجة سقوط صواريخ حماس عليهم، وترجمة هذه الأفلام إلى مختلف اللغات الأجنبية من عربية وإنجليزية وفرنسية وروسية وإسبانية وألمانية وحتى اللغة الصينية.

نحن الذين نتألم لألم شعب غزّة، نسبح في آلامنا بينما لا يصل الصوت الحقيقي والصورة الحقيقية إلى من يجب أن تصل لهم نتيجة دهاء العدوّ الإعلامي وإعداده العدة والعديد لجرائمه ووحشيته، ونتيجة فُرقة العرب وإحجامهم عن تكريس المال والجهد الضروريين كي يصبح العرب شركاء على الأقل في إنتاج وتسويق الكلمة والصورة. إذ هل يعقل أنّه مع حجم العالم العربي، وحجم ثرواته، لا يوجد لديه وكالة أنباء واحدة دولية تصيغ الخبر من وجهة نظر الحقّ العربي، ولا توجد لديهم محطة فضائية واحدة بحجم السي إن إن أو البي بي سي، تمكّنهم من اختراق هذا الخطر الإعلامي العنصري ضدّ العرب جميعاً وليس ضدّ فئة منهم دون الأخرى.

في غزّة عدوان غاشم وظالم ووحشي، يعتبر هذا النهج الإعلامي وتواطؤ الإعلام الغربي برمّته معه سنداً حقيقياً للعدوان، وعاملاً مساعداً للاستمرار في سفك دماء الأطفال والنساء في غفلة من الضمير العالمي. كما يعتبر الإحجام عن نقل مظاهرات التأييد للفلسطينيين والتنديد بالجرائم الصهيونية سنداً غير مباشر للعدوان ولكنه سند مهم بكلّ الأحول. لقد تساءل الكثيرون عمّا يمكنهم أن يفعلوا لمناصرة غزّة: اكتبوا قصصهم، وثّقوا صورهم، اصنعوا أفلاماً عنهم، وانطلقوا لإطلاع العالم على ما يجري لهم، واكسروا عتبة التّعتيم المجرمة والمشاركة في الإجرام والتغطية عليه.

www.bouthainashaaban.com