دماء غزة لإغراق الاعتدال والشرعية الدولية؟!

TT

ذات يوم قال سيغموند فرويد؛ اليهودي المعروف بأنه أبو علم النفس: إن الضحية تتوق دائما إلى لعب دور الجلاّد.

لكن أحفاده في إسرائيل تفوقوا تكرارا ومرارا على الجلادين النازيين. وآخر فصول الهولوكوست المفتوح الذي يقترفونه، كان في قطاع غزة. لم يكن معتقل أوشفيتز في مساحته ولا في عدد ضحاياه ولا في أفران الغاز ووسائل الإبادة فيه، إلا تفصيلا صغيرا أمام المحرقة الكبرى التي استهدفت أهالي غزة؛ المليون ونصف المليون فلسطيني، الذين وضعوا في الحصار والتجويع، ثم قصفوا بكل أنواع القذائف والنيران، في مقتلة جماعية تجعل من القادة الإسرائيليين نازيي العصر وعار العصر ووحوله.

وعندما يقول أرنست غولدبيرغر عالم الاجتماع السويسري اليهودي إن الحرب على غزة ستؤثر على سمعة إسرائيل، فإنه بالتأكيد يسوق حكما مخففا جدا على ما اقترفته إسرائيل من المجازر التي طالت الأطفال وكثيرا من الأبرياء في قطاع غزة. فالمسألة في النهاية ليست مسألة سمعة، خصوصا أن السمعة الإسرائيلية تقطر عارا، بل انها مسألة تآكل ذاتي وسيكولوجي، لأن مفاقمة القتل بهذه الطريقة المجنونة تقودنا إلى تصديق القول، إن الضحية يمكن أن تنتصر على الجلاد في وقت من الأوقات، وإن الآثم يمكن أن يخنق الآثم في يوم من الأيام.

ولا حاجة بنا إلى وقائع التاريخ وما شهده من رموز البطش والجريمة وكيف انتهى البطاشون والمجرمون. يكفي هنا أن نتذكر لوثة أدولف هتلر وقادة الرايخ الثالث وكيف انهاروا على ضفاف نهر الفولغا وأمام حطام ستالينغراد، ثم كيف انتهى الفوهرر منتحرا في «حجرة» تحت الأرض!

لكن المسألة في هذا الزمن السيئ ليست مسألة جلادين وضحايا وسياق من الدم والمآسي تقشعر له الأبدان. إنها أيضا مسألة أولئك الذين يحضرون مهرجان القتل ويعدّون له العدة لحسابات وأغراض وأهداف تثير الذهول أحيانا، وهي أيضا مسألة الأباطرة الكبار الذين يصفقون للمذبحة من دون إعلان أو يشيحون النظر عنها بلا حياء. هل يمكن الحديث في ظل هذا عن سقوط مبكر واستباقي في الشرق الأوسط للرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، الذي يعرف تماما فصول المذبحة، لكنه اختار منذ اليوم الأول قناعا معيبا يختبئ وراءه، عندما قال «هناك رئيس واحد يحكم»، باعتبار أنه لم يكن قد صار في البيت الأبيض، وأنه يحترم الأيام الأخيرة لحكم جورج بوش وتلذذه بـ«ثمالة الدم».

واذا كان كبير مستشاريه ديفيد اكزيلرود قد أوضح أن أوباما لن يعلق على ما يجري في غزة قبل أن ينصب رئيسا، فإن الحد الأدنى من المسؤولية السياسية والأخلاقية كانت تستدعي أن يتحول عشاء الرؤساء الأميركيين الخمسة، قبل أسبوعين، خلوة لوقف القتل ولي ذراع النازيين في تل أبيب.

وفي الواقع، إن المسألة في غزة ليست مسألة محرقة صريحة ومعلنة فحسب، وقد سبق أن وردت على ألسن المسؤولين في تل أبيب، ثم شاهد العالم وقائعها المرعبة والمخجلة يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، وضحية بعد ضحية، وطفلا مهشما بعد طفل مهشم، إنها مسألة محرقة للتسوية السلمية في المنطقة ولأكثر من ثلاثة عقود من الجهود المبذولة من اجل الوصول الى هذه التسوية.

ومنذ بداية العدوان الهمجي على قطاع غزة كان واضحا تماما سواء من خلال التصريحات أو المواقف، التي اتخذتها بعض الأنظمة والزعماء وقادة الأحزاب والحركات خارج القطاع المنكوب، أنه يراد استغلال بربرية الهجوم الإسرائيلي، كمنطلق إحراج وتأجيج شعبوي، لشن حملة قوية على أنظمة الاعتدال العربية، هدفها الأبعد إسقاط نظرية التسوية السلمية.

وكان واضحا أن «أنظمة الممانعة» ومنظماتها تريد تأجيج معركة سياسية شعبية ضد «أنظمة الاعتدال» ولهذا فان «معركة» معبر رفح عند «الممانعين» كادت أن تطغى على مذبحة الصهاينة ضد أهالي غزة، فلقد شاهد الناس بكثير من الذهول تركيزا من الفضائيات على التهييج الشعبوي ضد النظام المصري اكثر من التركيز على الآثم الإسرائيلي في القطاع!

لقد أريد لمذبحة غزة أن تكون في بربريتها منطلقا لامتلاك سيف يقطع كل حديث او تصور عن امكان التسوية، وعن وجود متسع للاعتدال في هذه المنطقة. كان الأمر بمثابة استعادة جديدة لشعارات ترتفع منذ نصف قرن تقريبا، لتقول ان الطريق الى فلسطين والى غزة انما يجب أن يمر بالأنظمة العربية، كما قيل ذات يوم انها تمر بجونيه وعيون السيمان، فضاع لبنان ولم تعد فلسطين.

ومن الواضح أنه يراد لمذبحة غزة ان تشعل نصف قرن جديد من الصراعات العربية – العربية، والانقلابات العسكرية والمآسي لا بل الكوارث التي لن تنتهي قبل نصف قرن جديد، وعندها لا ندري ماذا يبقى من فلسطين ومن العالم العربي أيضا!

واذا كان الرئيس جورج بوش صاحب «رؤية الدولتين»، من غير شر، يغادر البيت الأبيض على كف الكارثة فان الرئيس أوباما يدخل البيت الأبيض على كف كارثة أدهى ليس لأن ما جرى ذبح «رؤية الدولتين»، بل لأنه أشاح بنظره عن المذابح في وقت غرقت الدول الكبرى وخصوصا فرنسا في نوع من الأكروبات السياسي الكريه، الذي بدا وكأنه يريد أن يوفّر المزيد من الوقت للقتلة الإسرائيليين للمضي في سفك دماء الغزييّن!

وبإزاء كل هذا، بدا الكلام الذي قاله وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، في مجلس الأمن، وكأنه بمثابة إنذار قوي وصلب يوجَّه الى الشرعية الدولية والى القوى الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية.

لقد بنى موقفه غير المسبوق على معادلة تقول ما معناه اذا كانت الشرعية الدولية تدير ظهرها لما يجري بحق أهلنا في غزة فإننا قد ندير ظهرنا للشرعية الدولية.

مثل هذا الكلام الذي يصدر عن الدبلوماسية السعودية، التي تتميز بالهدوء والدماثة، يفترض أن يترك قشعريرة في مراكز القرار السياسي الكبرى في العالم وخصوصا في الولايات المتحدة، لأن وصول السعودية ومعها معظم الدول العربية الى حد التهديد بإدارة الظهر الى الأمم المتحدة، يعني تغييرا أساسيا في الخريطة السياسية والاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط والخليج، ويعني – استطرادا - انهيارا في جزء أساسي من التوازنات الإقليمية والدولية.

كان الأمير سعود الفيصل قد قاد المعركة الدبلوماسية العربية لمدة أربعة ايام كاملة في الأمم المتحدة وكواليسها. وكانت قد سبقتها سلسلة من الاتصالات المحمومة على مدار الساعة، قام بها وزير الخارجية السعودي والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، لوضع الدول الكبرى وتلك المشاركة في مجلس الأمن أمام مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية والإنسانية والسياسية حيال المجزرة الوحشية ضد الأبرياء في غزة.

في أي حال، كان السخط باديا تماما على وجه وزير الخارجية السعودي، لكن الأمر هنا يتجاوز الغضب والسخط الى مستوى طرح أسئلة محقة حول صدقية مجلس الأمن وأساليبه الملتوية ازاء ما يتعرض له الشعب الفلسطيني.

وامام الكارثة الإنسانية التي لا يمكن أن ينتج منها سوى المزيد من التطرف والابتعاد عن هدف السلام، كما يقول الفيصل، لم يعد يكفي «الاستغراب والدهشة من الصمت الرهيب إزاء ما يجري في غزة(..) فالأمر قد يصل الى أن يدّعي البعض ان هذه العملية ليست اكثر من ممارسة إسرائيل حقها في الدفاع عن النفس، في حين أنه في حال النزاع المسلح في جورجيا وجدنا المجتمع الدولي يتحرك بكل سرعة وفاعلية مستنفرا كل ما يستدعيه الأمر من طاقات لاحتواء الموقف ووقف الاقتتال وسحب القوات، وما زال نزيف الدم الفلسطيني مستمرا والدمار منتشرا وبطريقة لا يمكن تبريرها بأي شكل من الأشكال(...) خصوصا ان إسرائيل مسؤولة عن التدهور الخطير، فهي التي فرضت الحصار المرير على الشعب الفلسطيني وأغلقت المعابر».

هذا الكلام المفعم بالألم والاستغراب، وبالاعتراض الصارخ على ازدواجية المفاهيم والمواقف وردات الفعل الدولية حيال ما يجري، إنما يشكل علامة استفهام كبيرة حول موقف الشرعية الدولية، وهو ما عجّل عمليا باتخاذ القرار 1860 برغم المماطلة الفرنسية المدعومة أميركيا.

وعندما يصل الغضب برأس الدبلوماسية السعودية حدّ القول حرفيا «إما ان يعالج مجلس الأمن قضايانا المشروعة بالجدية والمسؤولية وإما أننا سنجد أنفسنا مرغمين على إدارة ظهورنا والنظر في أي خيارات تطرح نفسها»، فإن ذلك يعني أن دول الاعتدال تكاد أن تلامس اليأس من الشرعية الدولية، وهذا أمر خطير جدا.