أين سيكون العرب في عهد أوباما؟

TT

غدا، عندما يبدأ عهد جديد في واشنطن بعد أداء الرئيس الـ44 باراك أوباما اليمين الدستورية، تكون العرب بعاربها ومستعربها والمرشح لأن يصير «بائدها» في الحضيض... مع المفترض أن الأيام أيام قمة.

لقد أكّدت أحداث الأسابيع الثلاثة الماضية أقتم صورة لحال العرب، ومحنة غزة كانت اختبارا لعدة جهات، والأكيد أن غير طرف واحد خرج منها خاسرا ولو بدرجات متفاوتة.

فالنظام السياسي العربي خذله مرة أخرى الإصرار الإسرائيلي على رفض السلام العادل وأضعف رهانه المتفائل - وربما الساذج - على سلام تحميه الشرعية الدولية وتكفله في ظل اختلال مروّع في ميزان القوى العالمي. وبالتالي، لا بد من الاعتراف بأن صورة هذا النظام في شارعه وأمام الشعوب العربية والإسلامية المكبوتة تأثّرت سلبا وسط مشاهد الدَّمار والدِّماء ومناورات المزايدة وخطابات التهييج من جهات «ممانعة» (!) آخر همّها فلسطين والنضال والتحرير.

والعقل العربي أيضا خرج خاسرا عندما نجح العدوان الإسرائيلي، رغم تبجّح «مجاهدي» الخارج بالنصر الحتمي، في تنبيه العالم بأسره إلى أن لا وجودَ حقا لـ«معركة» متكافئة في القطاع المحاصر والمحتل. فما هو حاصلٌ حقا أن ثمّة آلة عسكرية صمّاء تزرع الموت والبؤس حيث تشاء. ومهما كان من أمر صواريخ حماس و«إزعاجها» المستوطنات الإسرائيلية، فقد جاء الرد الإسرائيلي الساحق أقسى بكثير من عملية تأديبية لجماعة تسعى فعليا إلى كسب معركة سياسية داخلية ضد خصومها المحليّين... ولو جاء دعمها المالي والتسليحي من قوى خارجية لها حساباتها الإقليمية مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة.

من الطبيعي أن تغلب العواطف عامة الناس، وأن ينفخ في النار المستفيدون من التأجيج والقابضون ثمنه والمحاربون بأجساد غيرهم. لكن ليس طبيعيا ولا أخلاقيا أن يجنح العقلاء والمثّقفون إلى «هستيريا» نضالية كذّابة، فلا يرَون ما هو أبعد من الخطاب التعبوي، متجاهلين الحصيلة التي يمكن أن يسمح بها مجتمع دولي تحكمه مصالح كبرى تتجسّد في مؤسّسات.

إن الكثير مما قيل وكُتب ومُثّل في الشوارع والساحات مقبول من المواطن العادي الجريح في كرامته وكبريائه، لكنه ليس مقبولا من أقلام وعقول تعرف جيدا تشابك المصالح العالمية ومع هذا تمارس التضليل والتحريض المكشوف. ولقد جاء «لقاء الدوحة» الأخير ليؤكد وجود استراتيجية واضحة تهدف إلى بناء «نظام إقليمي» جديد بوجوه بديلة، ولكن طبعا، ضمن الشروط نفسها التي يسمح بها المجتمع الدولي.

وإسرائيل خسرت، بلا شك، مقدارا لا بأس به من التعاطف الشعبي في كل أنحاء العالم. وإقدام دول مثل بوليفيا وفنزويلا على قطع علاقاتها معها - مقابل اكتفاء قطر وموريتانيا بـ«التجميد» - تطوّر رمزي له أبعاده برغم قلة تأثيره على الأرض.

كذلك فإن مشاهد التظاهرات الحاشدة على امتداد العالم وتغيّر المزاج الشعبي إزاء إسرائيل في العديد من الدول، حتى في أقاصي نيوزيلندا، من الأمور التي ما عاد بمقدور «ماكينة» الدعاية الصهيونية تجاهلها بعد اليوم. أما لغة القوة التي تكتفي بها إسرائيل لتعزيز قبضتها على الأراضي المحتلة فقد أضحت في العالمين العربي والإسلامي الشّريان الحيوي الذي يغذّي التشدّد الديني والتطرف الحَرَكي العنفي، وفي هذا وصفة ناجعة لصراع دموي لا منتصر فيه.

ولكن ماذا عن الولايات المتحدة؟

اليوم بينما تشخص الأنظار إلى عهد جديد في واشنطن، وسط تفاؤل مفرط بأن يطوي صفحة من أبشع صفحات علاقة أميركا بالعالم، يأمل الأميركيون قبل غيرهم بأن تكون نهاية عهد جورج بوش «الابن» طلاقا بائنا مع الأخطاء والخسائر السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية الفادحة.

ما حصل في غزة كان «تفصيلا» عند إسرائيل يفيدها في حملة انتخاباتها خلال الشهر المقبل، أكثر مما هو جزء من استراتيجية أميركية لعهد مودّع. وأما العهد المقبل فينتظره كثيرون في المنطقة لتقديم أوراق اعتمادهم له.

الرئيس أوباما اطلع خلال الشهرين الأخيرين، قطعا، على ملفات عديدة خاصة بالمنطقة إضافة إلى زيارته لها. ولديه في فريقه السياسي خبرات تعرف الشرق الأوسط جيدا، وتفهم فن «استدراج العروض» والمساومة «البازارية»... وعقلية أبناء المنطقة في قول الشيء بينما يعنون عكسه. وعليه لن يفاجأ بما سيجده أمامه.

مع هذا من سوء طالع العرب حقيقتان: الأولى أن الأزمات الأميركية الداخلية ومعها انعكاسات الأزمة المالية العالمية ستشكل أبرز أولويات العهد الجديد. والثانية أن عهد أوباما يطل على منطقة الشرق الأوسط ليجد العرب كـ«الأيتام على مائدة اللئام».

فاليوم، تبدو «الهوية العربية» وكأنها تفتش على من يقتنع بها، بعدما أنكرها أصحابها والمتشدّقون بها لصالح اعتباراتهم الفئوية والعائلية والفردية، واستدعوا إلى قلب الأسرة العربية قوى غير عربية يستقوون بها. وهكذا، بين الاحتلال العسكري المباشر والاحتلال «العسكري – السياسي» غير المباشر غدا صعبا العثور على دول عربية قادرة على التصرّف من تلقاء نفسها ووفق نظرتها المستقلة حقا.

ويجوز القول إن التسوية المحتملة لقطاع غزة الآن، بعد تقاطع مصالح إسرائيل وحماس على تدمير «الكيان» الفلسطيني المأمول قيامه، ستأتي وفق «سيناريو» آخر قائم على وهم «الانتصار».

ففي العراق جاء الغزو الأميركي ليهدي إيران انتصارا (لا ندري إذا كان يمكن وصفه بالإلهي أم لا) وليؤسّس حالة ملتبسة.. النفوذ الأكبر فيها لطهران، مع الحاجة لوجود دولي قد يكون طويل الأمد.

وفي لبنان تحقق «الانتصار الإلهي» (بإعلان سريع من إسرائيل) وتُرجِم على الأرض بوجود قوات «اليونيفيل» الدولية كقوات فصل في الجنوب، وانقضاض «حزب الله» على الداخل للاستيلاء على السلطة.

واليوم لا خيار في غزة غير قوات دولية للفصل، ومعها ستنقضّ حماس من جديد على الداخل معلنة «انتصارها» على «الخوَنة» و«المتعاملين» لتمنع أي تشكيك في حكمة خياراتها السياسية.

ومعلوم أن أول «الانتصارات» كان قد تحقّق لسورية مرتين عامي 1967 و1973 عندما صمد النظام رغم خسارة الجولان ووضعت قوات «الأوندوف» الدولية (المراقبة) الفاصلة عام 1974. وهو يعلن اليوم أنه «ممانع» بلا قتال، ويطالب العرب من الدوحة بقطع العلاقات مع إسرائيل.. بعدما كان أعلن أخيرا عن حتمية تحوّل المفاوضات غير المباشرة معها إلى مفاوضات مباشرة!

صدّق أو لا تصدق!