ما بعد غزة

TT

ستثبت الأيام المقبلة، ما إذا كان وقف إطلاق النار الهش في غزة قابلا للاستمرار والتحول إلى وقف إطلاق نار دائم، أم أن سيناريو الحرب والدمار سيتكرر مجددا، بعد فترة التقاط أنفاس، لنعود إلى المشاهد نفسها من جديد.

حتى الآن، تعكس الإشارات الصادرة إقليميا ودوليا، خاصة من قمة الكويت العربية، وقبلها من قمة شرم الشيخ الدولية، رغبة في حلول جذرية لأصل المشكلة، بينما المنطق يقول: إن الأطراف المشتبكة على الأرض بالسلاح، ليس لها مصلحة خاصة في المدى المنظور في استئناف المعارك، بعد ما لحق بغزة من دمار مادي وبشري، وإسرائيل لا تستطيع الاستمرار في حملتها، وسط ضغط عالمي شديد لوقفها، ورأي عام عالمي مصدوم من مشاهد الرعب والدمار. أما الأطراف التي كانت تشد الزناد من الخارج، متصورة أن اللحظة مناسبة لقلب الطاولة، وإيجاد أوضاع إقليمية جديدة لمصلحتها، فقد خرجت صفر اليدين، وثبت أن الشارع العربي ليس مغرما بها، كما كانت تتصور. وكل الأطراف لديها سبب آخر يدفعها إلى التهدئة بعد مغامرة نهاية 2008 وبداية 2009، وهي الإدارة الأميركية الجديدة، التي ستتسلم مهامها اليوم، والتي يرغب الجميع في استكشاف أسلوبها في التعامل مع أزمة الشرق الأوسط، بعد أن حاولوا تسجيل نقاط في القترة الانتقالية، بين إدارتي بوش وأوباما. ومن المفارقات التي تسترعي الملاحظة أن وقف إطلاق النار جاء قبل يومين فقط، من احتفالات واشنطن بتنصيب الرئيس الجديد.

وفي الكويت عقدت القمة العربية التي كانت مقررة أصلا للاقتصاد، كأول قمة عربية تعني بالشؤون الاقتصادية، وذلك في محاولة لمسايرة ما يحدث في العالم، حيث أصبح الاقتصاد هو أساس التعاون والتحالفات بين الدول، وجاء موضوع غزة ليفرض نفسه عليها، ويخصص له الجانب الأكبر، من اليوم الأول لأعمال القمة.

لكن الصدفة في بعض الأحيان تكون نافعة، لأن الاقتصاد جزء أساسي من التفكير في حل طويل الأمد لمشكلة غزة، في إطار الحل الفلسطيني الشامل، فعلي الصعيد الآني، هناك حاجة شديدة إلى إعادة الإعمار، وتعويض الأهالي عما لحق بهم من دمار، وقد عكست قمة الكويت استعدادا عربيا قويا للمساهمة في ذلك، من خلال مليار دولار، أعلنت السعودية تقديمها لإعادة الإعمار، ونصف مليار أعلنت الكويت عن تقديمها، ومن المتوقع أن يصل إجمالي المساهمات إلى ملياري دولار.

والمطلوب أيضا التفكير في حلول اقتصادية طويلة الأمد لقطاع غزة، وبشكل لا يؤدي إلى فصله تماما عن الضفة الغربية، بحيث لا نكون بذلك قضينا على مشروع الدولة الفلسطينية، لكن من المهم إيجاد مقومات اقتصاد حقيقي، يستطيع التنفس والتجارة، وإيجاد فرص عمل، فليس معقولا أن تكون فرص العمل متاحة فقط في شرطة حماس والميليشيات، بينما بقية السكان يعيشون على المعونات، ونسبة البطالة تصل إلى 60 و70 في المائة، والأموال تصل من الخارج في حقائب من جهات لها أجندتها الخاصة، والقضية الفلسطينية مجرد ورقة في هذه الأجندة. فمن الطبيعي في مناخ كهذا، أن يقوى التطرف، وأن تظل دورة العنف قوية، وينعدم الأمل في المستقبل، أو حتى الرغبة في البحث عن حلول سياسية على الأرض.

قد تكون هناك حاجة سياسية الآن، لإيجاد ترتيبات موثوق بها لتثبيت وقف إطلاق النار في غزة، وإيجاد ضمانات تمنع تكرار ما حدث وفك الحصار، والبحث عن وسائل لتحقيق مصالحة فلسطينية، توقف الانقسام الحاصل، لكن على المدى البعيد، فإن الضمان الوحيدة لاستقرار غزة، هو في مساعدتها على إيجاد اقتصاد حقيقي فيها، قابل للحياة ويحقق للناس حياة كريمة.