إيقاع الغياب

TT

منذ أكثر من شهر اتصل بي صديق وقال «منصور تعبان». وعندما يوصف مريض، عندنا، بالتعب يعني أنه أصبح على عتبة الغياب. ومنذ سنوات لم يعد يخرج إلى أماكنه المفضلة، بل جلس خلف مكتبه الصغير، المتواضع، في بيت مستأجر، واستمر يكتب، يشاغل عبقريته، إيقاعا موسيقيا وإيقاعا شعريا، وكم كان عظيمهما. لم أزره مرة إلا وكان منهمكا في عمل جديد. وكما أمضى شبابه يسأل رأي الآخرين، كان يقرأ عليّ في الدفاتر أمامه، مرة شيئاً من حب، ومرة شيئاً من ضوء، ودائماً شيئاً من البهاء الرحباني. ولم أترك منزله مرة إلا وفي قلبي صدى من شيء قاله أو قرأه، أو من صدى وقع عصاه وهو يضرب بها الأرض، متخيلا أنه يضرب بها كواهل الفاسقين والفاسدين من ساسة لبنان.

لم أنظر مرة إلى منصور- ولا إلى عاصي من قبل - على أنه إنسان عادي. ما من يوم قلّلت الألفة من مكانته المذهلة، في حياتي. وطالما اعتبرته، هو وعاصي وفيروز، جزءاً من فرح العمر وسقي الحنين. وكان يعرف ذلك. وفيروز تعرف ذلك. ليس لأنني أكتبه وأعلنه في البرامج، بل لأنني عندما أكون في حضورهما، اُشعِرهما، بصمت، مدى ما أنا فيه من امتنان للحظات الرفقة.

بالنسبة إلي، جسّم عاصي ومنصور وفيروز، ما يجب أن يعطي لبنان لنفسه، وللآخرين: رسالة المحبة والارتقاء. أن يعلّم حب القدس بالألم والعبقرية وأزليات الوجدان. أن يخترع العبقري حقيقة أجمل من الحقيقة التي هو فيها، من أجل أن يهيم بها الآخرون، لا أن يناقشوها. لبنان الذي كتبه عاصي ومنصور وغنته فيروز، أجمل وأرقى وأبقى وأعدل، من لبناننا. إنهم «والت ديزني»، الذي أنشأ عالماً إضافيا ساحراً، يتجاوز باستمرار العالم المعقَّد الذي نحن فيه. رسما وطنا رديفا، وسلماه إلى صوت فيروز فرفعته على أجنحة من ورد وندى.

بكل خلق ونبل لم ينقل الرحابنة إلينا، أي شيء من المعاناة التي واجهوها كبشر. حتى عندما أصيب عاصي بالفالج كان يعتلي المسرح ليقود الفرقة الموسيقية. وكان يشارك في ملء النص المسرحي فرحاً ودعابة. وفي أثناء مرضه وضع الرحبانيان مسرحية «المحطة»، تلك الغنائية السوريالية العذبة، المليئة ملاحات وغمزات اجتماعية.

كان منصور، الشرطي الآخر. شرطي، أفندي، طبقة أولى في بلدية بيروت بينما كان عاصي شرطياً في بلدية انطلياس. وقبل الحصول على مرتبة شرطي بلدي مهيب الجانب، عمل كلاهما في رعي الغنم والماعز. ومن عالم الألم والوحدة وعتم الحقول وقسوة الصخور، صنعا هذا العالم العذب الجميل. لا يستطيع أحد أن يدعي أنه فقد منصور. مثله تفقده الأوطان