حتى البحر مات صداه! (2-2)

TT

من مظاهر الألم أن يبدو كل شيء بعيدا، وكان بالأمس قريبا. فالمريض يمد ذراعيه ولكنه لا يصل إلى ما يريد. إنه لا يقوى على ذلك. فقد غيرت الأشياء كلها مواقعها، اتفقت على أن تكون بعيدة عن أصابعي وعن عيني، ماذا جرى؟ لا شيء، فقد كانت يداي تبلغان كل شيء، أما الآن لا شيء. اختفى فلم أعد أجد ورقا ولا قلما، أتلفت حولي لعلى أجد طعاما، رغم أنني لست جائعا. ولكن فقط أريد أن أعرف، ولا أجد ما أشربه، وحاولت أن انظر من النافذة لعلي أجد الأشياء البعيدة، وأن أراها - أن ألمسها بعيني - وأوهم نفسي أنها قريبة المنال، كأني أتخفف مما أعانيه.

وفجأة أحسست أنني لست أنا، وإنما بطل في رواية (الجوع) للكاتب النرويجي، هانسن، فقد اكتشف أنه ليس موجود، فمفردات الوجود أن تلمس كل شيء بيدك، وإذا لم تستطع فبأذنيك أو بعينيك أو بخيالك، وهو أضعف درجات الوجود، وأول عتبات العدم. وقد كان بطل (الجوع) فارغا، يتحرك في الفراغ بحثا عن الفراغ، فلم يكن جائعا، وإنما الجوع هو الذي يبحث عن جائع، كلام غريب؟! صحيح. ولكن هذا أقصى ما يستطيعه جائع إلى كل شيء.

وحاول بطل (الجوع) أن يشبع عينيه بالنظر من النافذة، فإذا شبعت عيناه، حاول أن يشبع أذنيه بسماع الناس.

لا أحد يمر تحت النافذة، شيء عجيب، حتى البحر لم يعد لأمواجه صوت، مات البحر؟ لم يمت، ولكن البحر بعيد جدا، فصدى أمواجه يموت قبل أن يصل إلى أذنيه.

إنه مزيد من الألم فهو لم يعد يسمع البحر!