إيران تحاور أوباما عبر يهود كلينتون

TT

التفجع تعبير عاطفي عن الشعور بالحزن والألم والغضب لما حل بأهل غزة. لا خوف من التفجع النبيل الذي لا ينحدر إلى التضليل والتخريب. فهو دليل على وحدة أمة في عواطفها المشتركة، وفي إدراكها البديهي لمصلحتها الواحدة، على الرغم من بعثرتها في دويلات وأنظمة مختلفة.

لكن التفجع العاطفي يبدو خطرا داهما، إذا ما استُغل ضد التحليل العقلاني والموضوعي للأزمات. التفسير الصريح لتسلسل الأحداث ولمواقف الأطراف والشخصيات، هو السبيل الوحيد الذي يحول دون تكرر الأخطاء، دون الاعتبار بالتجارب، دون تكرار الهزائم.

قدم التلفزيون العربي الصورة المريعة لجرائم الحرب الإسرائيلية. فعل ذلك بشجاعة رائعة مصورو التلفزيونات العربية ومندوبوها في غزة. تحدوا وحدهم خطر الموت، من دون مشاركة الصحافيين الأجانب الذين منعتهم إسرائيل من دخول غزة.

ديمقراطية الصورة تتمثل في سهولة توزيعها وتوصيلها إلى مئات ملايين المشاهدين. قلبت الصورة التلفزيونية الانحياز العالمي التلقائي لإسرائيل. خسرت إسرائيل الحرب الدعائية. كشفتها الصورة أمام العالم دولةً عنصرية شرهة في عدوانها، وعدم قدرتها على التعايش الآمن والسلمي مع المنطقة التي تعيش فيها.

غير أن الصورة التلفزيونية والتعليق السريع عليها لا يكفيان للتحليل والتفسير، ولتبصير الرأي العام المذهول، وبشكل خاص الرأي العام العربي، بسير المعارك ومحاور الهجوم والدفاع، وبالنتائج والتوقعات والاتجاهات المترتبة عن العدوان. بتعبير آخر، لم تُجَارِ معظم تعليقات الكتاب والمراقبين التلفزيون في الأداء الإعلامي.

كان معظم التعليقات إنشائيا. لا تفسير. لا تحليل. لا تحديد للمسؤوليات. لا ربط بين التطورات والمواقف السياسية التي أدت إلى الفاجعة. لا تفاصيل عن الخريطة الميدانية، بعد إعلان إسرائيل وقف القتال. غياب المعلومة الميدانية لا يمنع الكاتب السياسي والمعلق المحترف من طرح جميع الاحتمالات، والقراءة بين السطور بذكاء الحرفة، للتوصل إلى المواقف السياسية والميدانية خلال الأزمات والحروب.

الانهماك في الإنشاء العاطفي المكرر مكَّن آلة الدعاية الإيرانية والإسرائيلية، من قلب الهزائم إلى انتصارات. إسرائيل دقت على صدرها كغوريلا في غابة، معلنة تحقيق غرضها العسكري، في حين لم تتوقف صواريخ حماس. إيران تهربت من مسؤوليتها عن توريط حماس في مواجهة غير متكافئة، بل نجحت في تحميل النظام العربي مسؤولية الهزيمة!

غطت الدعاية الإيرانية بمهارة على عجز إيران عن نجدة حليفتها حماس. لا كلمة إيرانية واحدة عن «حياد» صواريخ «حزب الله». صمت سوري يماثل صمت جبهة الجولان العريضة الأبواب، في مقابل ثرثرة المزايدة على مصر التي لم تفتح بوابة رفح الضيقة، وعلى مبادرة السلام السعودية التي كان بشار تذرع بها لمفاوضة ترويكا العدوان: اولمرت وباراك وليفني.

عجز إيران من عجز النظام العربي. الفرق الوحيد أن مصر والسعودية لم تورطا حماس. لم تغدرا بشعب غزة. كانت مصر تحاول جاهدة إيجاد مخرج دبلوماسي لإنقاذ غزة وحماس، في حين تتلقى بصبر المزايدة الإيرانية - السورية التي لم تُراعِ عروبة مصر، متناسية تضحياتها من أجل فلسطين.. وسورية أيضا.

آمل أن يكون هذا الحديث المختصر، عن خداع آلة الدعاية الإعلامية، كافيا للتنبيه بأن الكتابات الجريحة على حائط غزة تتطلب ما هو أكثر من الإنشاء العاطفي. هذه هي مهمة الصحافة، سواء كانت في هذا المعسكر أو ذاك.

أتحدث في ما تبقى لي من مجال عن تتويج باراك أوباما ملكا على أميركا، مركزا على إصراره على فتح حوار فوري مع إيران. يبدو أن مملكة أوباما مستعدة للتجاوب مع مطالب إيران الإقليمية، في مقابل حماية إسرائيل من قنبلتها «الافتراضية» النووية.

ما هي مطالب إيران الإقليمية؟ شعور النظام الإيراني بهشاشة وضعه الداخلي، بعد إنتاجه جيلا شبابيا رافضا له، هو الذي يدفعه إلى مطالبة أميركا والغرب بضمان أمنه من أي تدخل خارجي لتغييره. في رفض الإدارات الأميركية السابقة تقديم هذا الضمان، عمد النظام إلى التماس القوة النووية لحمايته الذاتية.

غير أن الأمن لم يعد المطلب الوحيد. إيران تريد اعترافا أميركيا وغربيا بنفوذها ومصالحها في المنطقة، لا سيما في العراق، حيث وفّر لها غباء إدارة بوش نظاما مستعدا لتغليب طائفيته على عروبته. أيضا، إيران تريد امتيازات جديدة في الخليج. تريد تسهيلات عمل وإقامة دائمة، وربما غدا بطاقات تجنيس، لـ 400 ألف إيراني يعملون في تجارة الترانزيت، ويجنبون إيران ويلات الحصار الاقتصادي.

ربما تكون أميركا أوباما مستعدة للضغط على دول الخليج للتجاوب مع المطلب الإيراني، في مقابل تقديم إيران ضمانات والتزامات بعدم إغلاق مضيق هرمز أمام تسييل النفط العربي باتجاه أسواق استهلاكه الغربية.

عسكرة «حزب الله» مشكلة كأداء، يواجهها الحوار المتوقع بين أوباما وإيران. كيف يمكن تحقيق تسوية بين جيش موال لإيران كامل العدة والتسليح الحديث، وحماية استقلال وسيادة لبنان؟ على إدارة أوباما أن تجيب: هل ديمقراطية الطوائف قادرة على التعايش مع عسكرة الطائفة الأقوى والأكثر عددا؟

في موازاة إشكالية «حزب الله» تتفجر مشكلة حماس. باتت إيران تستقطب الجهاديات الحربية السنية والشيعية، وتستخدمها في تغطية اختراقها للمشرق العربي، بإلهاب عواطفه الدينية، من خلال دفع هذه الجهاديات إلى اشتباك دموي غير متكافئ مع الدولة العبرية، ثم تحميل النظام العربي مسؤولية الهزيمة والخسائر البشرية الفادحة، ومطالبته بالتعويض المادي عن المصابين. إذا تمكنت إدارة أوباما من فرض حل على إسرائيل يرضى به الفلسطينيون، فبالإمكان قطع الطريق على مزايدات إيران الفلسطينية، من دون تقديم تنازلات وضمانات لها على حساب العرب والنظام العربي.

في الحوار مع إيران وإسرائيل والفلسطينيين، يبدو أن أوباما مضطر للاستعانة بالفريق الدبلوماسي اليهودي الذي استعانت به إدارة كلينتون. غير أن هؤلاء أخفقوا، على مدى 15 عاما من التوسط بين الفلسطينيين وإسرائيل في تحقيق سلام عادل. استقالة هيلاري كلينتون من «مشيخة» نيويورك قد يخفف عنها عبء ضغط يهود المدينة عليها. لكن المعلومات ترجح إسناد عملية التعامل مع إيران إلى الدبلوماسي المخضرم دنيس روس (60 سنة) الذي يعتبر رئيس فريق زوجها، وذلك إلى جانب مشاركته في الحوار الإسرائيلي - الفلسطيني.

هل يهود كلينتون الليبراليون أفضل للعرب وإيران من يهود بوش المحافظين، الذين ورطوه في غزو العراق، وتأجيل الحل في فلسطين؟

أقول إن طبيعة أوباما اللينة، وميله إلى التسوية، إرضاءً لزعماء معسكره الديمقراطي، الذي يعج بغلاة المتعاطفين مع إسرائيل، يجعلان من الصعب عليه تشكيل فريق تفاوضي مُطَعَّمٍ أيضا، إلى جانب يهود كلينتون بأكاديميين أميركيين عرب وإيرانيين لا يقلون خبرة في قضايا المنطقة.

نعم، بوش سيئ. لكن أوباما ليس كله خيرا. يبقى السؤال الصعب: ماذا يتعين على النظام العربي أن يفعل: إذا نجح أوباما في تحييد إيران نوويا، في مقابل التجاوب مع مطالبها الإقليمية، على حساب مصالح العرب، واستقرار دولهم، وهويتهم القومية؟ بل ماذا يستطيع النظام العربي أن يفعل، إذا أخفق أوباما في تحييد إيران نوويا، ليصبح قصفها الخيار الأخير والوحيد؟

الجواب، في كلتا الحالتين، عند النظام العربي، الذي يبدو إلى الآن غير متنبه إلى خطر الحوار الأميركي مع إيران، أو فرض تسوية غير عادلة على الفلسطينيين بعد «تحييد» حماس إيران في غزة.