لعبة الاستدراج من عبد الناصر إلى خالد مشعل

TT

بعد ثلاثة أيام من التدمير للقواعد الجوية المصرية، وتشتيت القوات التي كانت توزعت على نقاط من صحراء سيناء، وذلك في مشهد صاعق لم يجد الرئيس جمال عبد الناصر ما يخفف من وطأته على الشعب سوى الطلب من اليد اليسرى الإعلامية - التنظيرية له الأستاذ محمد حسنين هيكل كتابة نص خطاب الاستقالة، بعدما خذلَتْه اليد اليمنى العسكرية المشير عبد الحكيم عامر الذي ما زال حتى بعد انتحار الأخير ثم رحيل عبد الناصر، يستعصي علينا فهْم هذه الثقة من جانب الرئيس في وزير الدفاع والأخْذ برؤيته وتقديراته، فضلاً عن أن واقعة استدراج إسرائيل ارتبطت بصاحب عبارة «حا نبطَّطهم يا ريس» وذلك رداً على استفسار من جانب عبد الناصر عما يمكن أن يحدث في حال شنت إسرائيل الحرب على مصر.

أما كيف حدث الاستدراج، فإن عبد الناصر الذي استوقفه تزايد التهديد الإسرائيلي لسورية، مع أنها كانت بانفصالها عنه ساعدت على انحسار مهابته، وبالذات تصريح أدلى به يوم 12 مايو/ أيار 1967 اسحق رابين الذي كان زمنذاك رئيسا للأركان جاء فيه «إننا سوف نشن هجوما خاطفا على سورية وسنحتل دمشق لنُسقط الحكم فيها ثم نعود»، استقصى من المشير عامر عن قدرات الجيش المصري في حال نفذت إسرائيل ما ورد في تصريح رابين الذي أضفى عليه جدية سياسية رئيس الوزراء ليفي أشكول الذي صرَّح بأن إسرائيل «مستعدة لاستخدام القوة ضد سورية». ثم نقل رئيس الأركان المصري الفريق محمد فوزي بعد زيارة تفقدية للجبهة السورية معلومات جعلته يعلن حالة الطوارئ في الجيش المصري ويجري في الوقت نفسه اتصالات مع القيادة السوفياتية.

وهنا حدثت نقلة في اتجاه الاستدراج الذي كان خطأ استراتيجيا بكل المقاييس لأن عبد الناصر يريد التصعيد.. إنما إلى ما قبل المواجهة، وذلك عندما بعث المشير عامر يوم 16 مايو برسالة إلى الجنرال ريكي قائد قوات الطوارئ في قطاع غزة وشرم الشيخ جاء فيها الآتي: «أحيطكم علما بأنني أصدرت أوامري للقوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة بأن تكون مستعدة لأي عمل ضد إسرائيل في نفس اللحظة التي ترتكب فيها أي عمل عدواني ضد أي دولة عربية. وطِبقا لهذه الأوامر، فإن قواتنا تحتشد الآن في سيناء وعلى حدودنا الشرقية. وحرصا منا على سلامة القوات الدولية التي تتخذ مواقعها على حدودنا الشرقية، فإنني أطلب منك أن تصدر أوامرك بسحب هذه القوات من مراكزها على الفور. وقد أصدرت أوامري إلى قائد المنطقة الشرقية حول هذا الموضوع، وطلبت أن يبلغني تنفيذ هذه الاوامر».

إزاء رفض يوثانت مبدأ الانسحاب الجزئي وحلول قوات مصرية محل القوات الدولية، بدأت إسرائيل تستعد لاستثمار الفخ الذي ستقع مصر لاحقا فيه، وبدأت تتحدث عن حقها في حرية الملاحة لسفنها في خليج العقبة مستندة إلى التزام أميركي في هذا الشأن حصلت عليه عام 1957. أما ما يتعلق بالتهديدات لسورية وأكثرها خطورة ما صدر عن اسحق رابين وليفي أشكول، فإن الصوت الإسرائيلي هدأ قليلا الأمر الذي يعني أنه كان من باب توريط عبد الناصر وليس تنفيذ التهديدات.

إلى ذلك تركت رسالة من الرئيس جونسون إلى الرئيس عبد الناصر، الذي كان أمر بإغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، مشاعر حائرة في نفس الرئيس المصري. فهو، أي الرئيس جونسون، يؤكد الالتزام الذي تستند إليه إسرائيل في شأن حرية المرور في خليج العقبة. ومن جهة أخرى يقول لعبد الناصر، إن في استطاعته الاعتماد على أن الإدارة الأميركية تعارض بحزم أي عدوان في المنطقة من أي نوع كان. وزيادة في تأكيد الموقف، أوضح جونسون أنه سيوفد نائبه هيوبرت همفري إلى المنطقة. لكن الرئيس الأميركي وبعدما حقق يوثانت خطوة نوعية على صعيد التهدئة لم تلقَ قبول إسرائيل التي كانت تخطط للعدوان على مصر، فاجأ عبد الناصر والعالم بأنه بدا مؤيدا للعدوان في ضوء محادثات أجراها معه في البيت الأبيض وزير خارجية إسرائيل أبا إيبان. أما عبد الناصر فبقي على درجة من الطمأنينة بأن القدرة العسكرية المصرية وعلى نحو ما يقوله المشير عامر، يرى أنه ما دام هذا هو موقف إسرائيل، وذاك موقف أميركا، وذلك موقف الأمين العام للأمم المتحدة يوثانت، وما دام أغلق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، فليتكل على الله ولتتم المواجهة مع إسرائيل.. إنما كدفاع ردا على عدوان وليس الهجوم، خصوصا أن المشير عامر روى له ولبعض المسؤولين العسكريين والمدنيين من بينهم محمود رياض يوم 28 مايو 1967 واقعة لافتة خلاصتها أنه أرسل طائرتيْ «ميغ 21» للاستطلاع فوق بئر السبع، وأن الطائرتين التقطتا إشارات إسرائيلية تدل على مدى الذعر الذي أصاب الإسرائيليين، مضيفا أن مصر بثُلث قواتها تستطيع الوصول إلى بئر السبع في حال قامت إسرائيل بعمل ضد مصر. ومن الطبيعي عندما يسمع عبد الناصر من المشير هذا الموقف المطمئن أن يرد على رسالة جونسون مرحبا بزيارة همفري، متمسكا في الوقت نفسه بما اتخذه من إجراءات، متعهدا بأن مصر لن تكون البادئة بالعدوان، وبأن نائبه زكريا محيي الدين سينقل إلى الرئيس الأميركي الموقف بشكل ثابت.

حتى اللحظة الأخيرة، كان عبد الناصر يأمل ألاَّ تحدث الحرب. وكثيرا ما سمعت شخصيا كلاما في هذا الشأن من الملك حسين رحمة الله عليه (آخر حاكم قابل عبد الناصر في القاهرة قبل الحرب) في مكتبه في عمان بحضور الأستاذ عبد المجيد فريد الذي استرسل في سرد وقائع تؤكد ذلك. كما سمعتُ الكلام في الإطار نفسه من الدكتور حسن صبري الخولي كممثل شخصي للرئيس السادات في مكتبه في قصر عابدين، فضلا عما رواه لنا السيد محمود رياض عندما زارنا في مكتب «التضامن» في لندن وزوَّدنا بأوراق عن تجربته العريضة، أفادتني في ثلاثيتي ذات التسمية «زلازل مصر السياسية» التي أصدرتُ الجزء الأول منها على أن يصدر الجزآن المتبقيان لاحقا.

في نهاية الأمر كان الذي حدث عبارة عن بضع حلقات من الاستدراج. إسرائيل استدرجت سورية لكي تطلب هذه من عبد الناصر نجدتها، وعبد الحكيم عامر استدرجوه لكي يرسم أمام عبد الناصر صورة وردية لواقع الحال في الجيش المصري الذي ذهب إلى سيناء وكان بعض أفراده منقوصي الغذاء والحذاء. وعبد الناصر استدرج إسرائيل إلى المواجهة غير المستعد لها وغير المقرر خوضها، إذ كيف سيكون مستعدا ومقرِّرا، بينما جيشه غارق في المتاهات اليمنية. وإسرائيل استدرجت أميركا جونسون التي لا تحتاج بالنسبة إلى إسرائيل إلى الوقوف معها بفعل الاستدراج. وهكذا تكون حدثت كارثة يتحمل الوزر في بعض مفاصلها الرئيس عبد الناصر الذي عندما لم يستوقفه مضمون رسالة المشير عامر إلى قائد القوات الدولية لسحب القوات الدولية جزئيا، وعندما لم يتدارك مطلب يوثانت بسحب القوات بالكامل، وعندما لم يفترض أنه إذا كان لن يبدأ الهجوم فإن الطرف الآخر، أي إسرائيل، سيهجم.

وبَدَل أن تكون حالة الاستدراج من عبد الناصر لإسرائيل وما أفرزته من كوارث في البشر والحجر والمعنويات، أمثولة لكي يتفادى من هم بعده من حكام وقيادات في الأمة لعبة الاستدراج هذه، فإننا نرى الأخ خالد مشعل ورفاقه في «حماس» يُستدرجون بنصائح سورية - إيرانية لإنهاء «حالة التهدئة» التي هي كما سحب القوات الدولية من قطاع غزة وشرم الشيخ ثم من غزة وسيناء بكاملها، وبذلك تتذرع إسرائيل ثم ترتكب مجزرة، ربما كانوا مثل الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله لا يتصورون أنها ستكون بمثل ما هي عليه وما ستنتهي إليه وإلا لما كانوا ارتأوا نتيجة الاقتناع أو الإيحاء أن يفعلوا ما فعلوه. وللمناسبة فإن «حالة التهدئة» هذه لا تستحق أن تنتهي غزة بشرا وحجرا إلى ما آلت إليه. كما أن استدراج الرئيس صدام حسين أميركا نتيجة غزوه للكويت لا تستحق أن ينتهي أمر العراق إلى ما انتهى إليه رقما محذوفا من المعادلة الإقليمية وحضورا باهتا في المعادلة العربية.. هذا إلى جانب أن استدراج «حزب الله» إسرائيل بخطف جنديين لها لا يستحق أن يصيب لبنان ما أصابه مع ملاحظة أن المصاب اللبناني كان رسالة إلى المصاب الغزَّاوي، وأن هذا الأخير هو في بعض جوانبه رد على الرسالة. وقانا الله من لعبة الاستدراج هذه، ولتكن هنالك صحوة يستعاد فيها الوعي وتتراجع المراهنات والولاءات، وعلى أساس أن «المبادرة العربية» تبقى أفضل السعي الممكن من أجل ترجمتها إلى واقع. وبذلك تكفي المتنابذين العرب والمسلمين مخاطر التلاعب والمكايدة والشر الإسرائيلي المستطير المستديم.. حتى وضع المبادرة المشار إليها موضع التنفيذ.