عندما يطوي النسيان بوش

TT

لا أرغب في الإلقاء بالرئيس خارج الباب، لكنه كان مخطئا عندما أخبر المراسلين داخل البيت الأبيض، خلال مؤتمر صحافي خيمت عليه مشاعر الحزن والحنين إلى الماضي، بأن «لا يوجد شيء يدعى تاريخ قصير الأمد». في واقع الأمر، تبدو بعض الفترات الرئاسية على نحو مختلف بعد بضعة عقود، لكن في الوقت ذاته هناك بعض التصرفات والإجراءات الرئاسية ربما تخلف تداعيات فورية ـ وأن جورج دبليو. بوش سيغادر مقعد الرئاسة الأسبوع المقبل، كرئيس يجري النظر على نطاق واسع إلى فترة رئاسته الممتدة لثماني سنوات، باعتبارها فترة وقعت خلالها البلاد في حضيض سيستغرق الخروج منه سنوات عديدة.

وخلال المؤتمر الصحافي، أكد بوش: «أختلف بشدة مع التقدير القائل بأن مكانتنا الأخلاقية تضررت». وأضاف: «أختلف مع هذا التقدير القائل، كما تعلمون، بأن الناس باتت تنظر للولايات المتحدة بصورة سلبية».

والتساؤلات التي تفرض نفسها لدى سماع ذلك هي: ألم يول بوش انتباها لما يدور حوله؟ ألم يلحظ أن كلا من الرئيس المنتخب باراك أوباما وخصمه الجمهوري، السيناتور جون ماكين، شعرا بالحاجة إلى إطلاق وعود باستعادة سمعة أميركا الطيبة ومكانتها الرفيعة على مستوى العالم؟ أم أنه يحسب أنهما كانا يمزحان فحسب؟

وفي رده على سؤال حول ما يعتبره الخطأ الأكبر خلال فترة رئاسته، قدم بوش إجابة مثيرة للاهتمام ذات صلة بالعلاقات العامة أكثر منها بعملية صنع القرار الرئاسي. وذكر بوش لافتة «تم إنجاز المهمة» الذي تم رفعه قبل الأوان لدى انتهاء عمليات القتال الكبرى داخل العراق ـ لكنه لم يشر إلى قراره بغزو العراق من الأساس. وذكر إخفاقه في زيارة سكان ولاية نيو أورليانز في ذروة معاناتهم من الفيضانات المدمرة التي سببها إعصار كاترينا ـ لكنه لم يذكر قراره بإسناد رئاسة الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ إلى مايكل براون المفتقر إلى الكفاءة.

من وجهة نظر بوش، يعتبر الكشف عن الانتهاكات الفادحة التي وقعت في حق السجناء في سجن أبو غريب على يد الحراس العسكريين الأميركيين في العراق «خيبة أمل هائلة» ـ لكنه لم يبد تحمله أي مسؤولية، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، عن المناخ العام الذي ساده التسيب وغياب الرقابة الذي سمح بوقوع مثل هذه الانتهاكات. أما فشل القوات الأميركية في العثور على أسلحة دمار شامل بالعراق لا يعدو كونه «خيبة أمل كبيرة» بالنسبة لبوش - رغم أن الخطابات المرعبة التي أطلقتها الإدارة حول أسلحة الدمار الشامل لعبت الدور الأكبر في اتخاذ قرار غزو واحتلال العراق، وهي خطوة لم يكن ينبغي اتخاذها قط.

والمثير للدهشة أن بوش خصص وقتا ضئيلا خلال المؤتمر الصحافي الذي ربما يكون الأخير من نوعه بالنسبة له كرئيس، في تناول الإنجازات الفعلية التي حققها. في الواقع، حقق بوش إنجازات بالفعل، فعلى سبيل المثال، يعتبر بوش أول رئيس أميركي يوجه قدرا كبيرا من المال، ويبذل جهودا جادة على صعيد حملة مكافحة مرض الإيدز داخل أفريقيا. ورغم إهدار الإدارة قدرا هائلا من الأموال على برامج التشجيع على «الامتناع عن العلاقات الخاصة حتى الزواج» والتي تحيط الشكوك بمدى فاعليتها، تظل الحقيقة بأن الملايين يبقون على قيد الحياة وفي وضع صحي جيد نسبيا من خلال العقاقير المضادة للفيروسات القهقرية التي لم تكن لتتوافر دون التمويل الذي وفره بوش. وقد خلق هذا الأمر اختلافا في حياة الناس بدول جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية.

علاوة على ذلك، بذل بوش قصارى جهده لدفع حزبه بعيداً عن التوجهات المعادية للأجانب التي تعكس ضيقا في الأفق في التعامل مع قضية الهجرة. بيد أن ذلك لا يرقى لأن يكون إنجازا حقيقيا، نظرا لعجز بوش عن تمرير مشروع قانون مقبول يتناول قضية الهجرة. لكن التاريخ قصير الأمد أثبت صحة وجهة نظر بوش، حيث انشق الناخبون ذوو الأصول اللاتينية عن الحزب الجمهوري، وأدلوا بأصواتهم لصالح الديمقراطيين بأعداد كبيرة. وبإمكان بوش الإشارة إلى عدم تعرض الأراضي الأميركية إلى هجوم إرهابي منذ هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 التي نفذها تنظيم «القاعدة» باعتبار ذلك إنجازه الأكبر. ولكن على هذا الصعيد، يعتمد بوش بصورة شبه كاملة على التاريخ قصير الأمد، ذلك أن حجته تقوم فعليا على فكرة أنه طالما نجحنا في العيش لمدة سبع سنوات وأربعة شهور دون التعرض لهجوم، فإن ذلك يعني أن أساليب مكافحة الإرهاب التي انتهجتها إدارته ضرورية وفاعلة.

ربما يبث هذا الاعتقاد شعورا بالارتياح في نفس الرئيس، لكنه غير مبرر، ذلك أن عدم وقوع هجوم إرهابي جديد لا يبرر اللجوء لأساليب الإيهام بالغرق واحتجاز الأشخاص في غوانتانامو والسجون السرية التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وفرض رقابة على الصعيد الداخلي دون استصدار تصريح قضائي بذلك. من ناحيته، يؤمن بوش بأن هذا التحول بعيد عن القيم والتقاليد الأميركية كان ضرورياً. لكن بالنظر إلى ما يتوافر لدينا حاليا من معلومات، يبدو أن هذه الإجراءات تشكل إفراطا في القسوة وتنطوي على استخفاف بحكم القانون، الأمر الذي ألحق ضررا بالغا في تقدير هذه الأمة لذاتها.

إلا أن ما ينبغي التنويه به أن ما نعلمه حتى الآن ليس كافيا. من جانبي، أتفهم التردد الذي يبديه أوباما حيال إجراء تحقيقات جنائية بشأن ما شهدته سنوات حكم بوش من أحداث. لكن من المهم أن نجري تحقيقا والتعرف على الحقيقة كاملة، حتى لا يُقدم أي رئيس آخر على ارتكاب هذه الأخطاء مجددا. وسيبدي التاريخ، على المديين القصير والطويل، امتنانه حال القيام بذلك.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»